<font color='#000000'>العرب: قبيلة تأكل خيولها

سليمان الهتلان
اتصل بي صديقي من أمريكا ساخراً: "هل أعادتك أمريكا إلى بلادك؟"
أجبت: أنا في الرياض مع بعض الضيوف من أمريكا لحضور الجنادرية وإطلاع ضيوفنا على بعض منجزاتنا الوطنية. ثم سألت: ما القصة؟
قال ضاحكاً: "قرأت في الإنترنت أنك واحد من ضحايا الرأي في السعودية وأن حكومتك تطالب الحكومة الأمريكية بإعادتك."
ضحكت لكنني لم أرد أن أكلف على صديقي وهو المتصل من أمريكا لأشرح له كيف أن مسؤولين رسميين سعوديين غضبوا حينما علموا عن تأخير حصولي على تأشيرة الدخول إلى أمريكا قبل أشهر وبعضهم تحدث للسفير الأمريكي مباشرة للاستعجال في إنهاء إجراءات التأشيرة لكيلا أتأخر عن العودة إلى بوسطن. ولم يتسع الوقت لأن أشرح لصديقي أنني - منذ أشهر-- أمضي في السعودية وقتاً أطول مع وفود أمريكية تزور بلادي أكثر من الوقت الذي أقضيه في مقر إقامتي بأمريكا. هل كان ضرورياً أن أذكره بالفيلم الوثائقي الذي أنتجه الصديق مارتن سميث لمحطة الـ(بي بي إس) الأمريكية قبل شهرين وعرض قبل أسابيع وقابل فيه سمو الوالد الكبير ولي العهد الذي شرفني أن أتولى ترجمة المقابلة؟
كم أشغلتنا الإنترنت العربية بتفاهات الجبناء الذين يختفون خلف أسماء وهمية وهم يثرثرون عن "الحرية" و"الديمقراطية" و"النضال" إلى آخر قاموس الكذبات العربية. لم أكتب يوماً ضد بلادي في الصحافة الأمريكية ولكن كتبت وأكتب باعتزاز عن بلادي ومجتمعي في صحافة بلادي وفي الصحافة الأجنبية. يضعني جبناء الإنترنت في قائمة الهاربين وتكرمني قيادة بلادي - كل يوم - بحفاوة الاستقبال وصدق الإنصات لأفكار تنطلق من واجبي الوطني وحرصي على وحدة بلادي وخوفاً على مجتمعي من مستقبل يهدد منجزنا الوطني بالفرقة أو يعيدنا إلى عصور التطاحن والانطفاء.
في عام 1995 بدأت أجرب الكتابة الصحفية الناقدة بلغة جديدة لم أتعلم أدواتها إلا متأخراً. أدركت على الفور أن في المحاولة مخاطرة وتضحية وثمنا لا بد أن يدفع لأن الكتابة بلغة جديدة، لجمهور جديد، تعني الكتابة بوعي جديد وأدوات جديدة قوامها المباشرة والنقد الموضوعي، أليست اللغة تعكس في الواقع ثقافة محيطها الاجتماعي والسياسي؟ في تلك السنة، ما إن خطوت الخطوة الأولى عبر صحيفة البارثنون الطلابية في غرب فرجينيا، وقد حاولت أن أتحرر من عقدة الرقابة الذاتية التي رسختها "السلطة الأبوية" في عقولنا حتى مارس بنو جلدتي في الاغتراب - وقد ظننت أنهم من سيحتفي بمحاولتي - دور الرقيب المتسلط وتوالت الرسائل المجهولة على مكاتب المسؤولين في بلادي تندد بهذا الذي خرج على أعراف القبيلة وكتب في صحافة القبائل البعيدة، لا يقوون على المواجهة فيختفون خلف أسماء من مثل "فاعل خير" و"مواطن مخلص" و"خادمكم الوفي"&#33;
و الآن تشغلنا الإنترنت بأكاذيب من يصطادون في المياه العكرة.
لم تنقذنا تكنولوجيا العولمة من جاهليتنا بل رسختها وفتحت أمامها مزيدا من أبواب الانتشار. في أواخر التسعينيات، كنت طالباً في جامعة جورجتاون بواشنطن. وقفت ذات يوم في فصل دراسي أعدد أسباب قناعتي بأن الإنترنت سوف تقود التغيير الإيجابي في المجتمع العربي على كافة الأصعدة. كان أستاذي يحذرني من افتراضاتي المدعومة فقط بتفاؤل لا تدعمه حقائق الواقع العربي. تمر سنوات قليلة ليصبح مؤكداً عندي أن تعاملنا في العالم العربي مع تكنولوجيا الحداثة مازال تحت رحمة أيدلوجيا القبيلة.. تماماً مثلما فعلت قبيلة من الهنود الحمر مع الحصان حينما عرفته للمرة الأولى. يروي بيتر فارب في كتابه "صعود الإنسان إلى الحضارة كما تمثلها تجربة الهنود الحمر من العصر البدائي إلى قدوم المرحلة الصناعية" قصة دخول الحصان إلى ثقافة بعض قبائل الهنود الحمر حينما اكتشف بعضها هذا الحيوان الجديد المثير. كان ذلك في عام 1541 وكان الحصان وقتها يسمى "البقرة العجيبة". يشرح بيتر فارب كيف أن القبيلة التي عرفت كيف توظف الحصان وتستثمر طاقته وقوته وجدت نفسها تنتعش اقتصاديا وتغير في موازين القوة في معاركها مع القبائل المعادية حتى أصبح الحصان أداة فاعلة في السلم وفي الحرب. تلك القبيلة التي استثمرت إمكانات الحصان بعد أن اكتشفتها وجدت ذاتها تتفوق على غيرها حيث طور الحصان وسائل المواصلات والصيد والحرب.غير أن قبيلة أخرى رأت الحصان فعاملته كما عاملت الثيران المتوحشة فبدلاً من ترويض الحصان وتدريبه وتأهيله للركوب والصيد والحروب، كان يصطاد بالأسهم والقوس والخناجر ثم يؤكل كما تؤكل الغزلان والثيران البرية. ولذلك واجهت تلك القبيلة مزيدا من أمراض السمنة وزاد تخلفها اقتصاديا ولم تجدد أشكال نشاطها اليومي التقليدي المتوارث وهربت من أي معركة قبل دخولها.
تلك هي قصتنا مع تكنولوجيا الحداثة وأدوات العولمة. إننا قبيلة تأكل خيولها. انظر كيف يستخدم العرب الإنترنت في تأصيل الفرقة وإثارة الضغائن وتعميم النميمة وتبادل الأحقاد وإلغاء الرأي الآخر والطعن في ظهور الناشطين وممارسة كل أنواع القبح خلف ستار من الأسماء الوهمية. انظر كيف يتسابق العرب على تأسيس قنوات تلفزيونية فضائية تعيد الأمة إلى حروب داحس والغبراء وتمارس أدوار شعراء المدح والهجاء. تأمل كيف يستخدم العرب الهاتف الجوال في ساعات طويلة في كلام ليس فيه كلام.
نعم&#33; إننا بحق قبيلة تأكل خيولها. سوف تزداد أمراضنا وقتامة مستقبلنا. سوف نظل عالة على العولمة ولم يعد حتى ممكناً أن نتسلى بالتغني بأمجاد المدينة العربية الفاضلة التي برع كتاب الأكاذيب التاريخية في تصويرها لنا كي تلهينا عن حقائق الراهن المهزوم. سوف نبقى كذلك حتى يهيِّئ الله لأمتنا أصواتاً صادقة تصرخ في أذن الأمة أن تفيق من هذا السبات الطويل وتقطع الطريق على قافلة طويلة - ممن يسمون كتاباً ومثقفين وباحثين ودكاترة ومفكرين - ممن يستثمرون في مآسي الأمة بتضليل مجتمعاتهم وقيادات بلادهم كل ما حلت كارثة.
هكذا برعنا في تأكيد هذه الفكرة: تجاهل التكنولوجيا الحديثة ليس وحده أحد شروط البقاء في آخر قائمة صناع الحضارة الإنسانية ولكن استخدام التكنولوجيا قد يصبح أيضاً من عوامل التخلف... تماماً مثلما يحدث الآن في عالمنا العربي.
* باحث سعودي في جامعة هارفارد



منقول</font>