<font color='#EE9A4D'>تدافعت الطالبات للخروج من قاعة المحاضرات في الكلية بعد أن انتهت المحاضرة .. إلا أن منار لزمت مقعدها وهي تمسك بقلمها بين اصبعيها في حين كانت تضع ذقنها على راحة يدها الأخرى .. انتظرتها صديقتها لتخرج معها .. إلا أن منار اعتذرت منها متعللة بأنها تشعر بصداع خفيف وتريد أن تأخذ قسطا من الراحة ..
لقد كانت في حقيقة الأمر تفكر بذلك الشخص المدعو طارق .. شخص آخر مكانه سيكون سعيدا لأن فتاة تتحدث معه .. فلماذا تعتقد أنه شعر بالضيق عندما عرف أنها فتاة ؟ كانت هذه النقطة تحيرها كثيرا .. أحيانا تتمنى لو أنها لم تخبره .. وأحيانا أخرى تظن أن الذي فعلته هو الأمر الصحيح ..
كانت منار مثالا للفتاة المجتهدة الذكية صاحب العقل الراجح .. تتميز بقدرتها الرائعة على الرؤية الثاقبة و تحليل الأمور .. تثق كثيرا في نفسها .. لكنها أيضا تملك قلبا رقيقا يجعلها تشعر أنها ضعيفة أمام نفسها وكذلك أمام الآخرين .. ودون وعي منها .. انتبهت منار أنها كانت تكتب اسم طارق على كتابها بالقلم الذي تحمله .. أغلقت الكتاب ثم نهضت مغادرة القاعة ..
*** *** *** *** *** *** ***
وقف طارق أمام منار ينظر إلى عينيها بشوق .. ابتسمت له وقد احمرت وجنتاها من الخجل قبل أن تخفض عينيها إلى الأرض .. أمسك يدها برفق وسار معها في خطوات بطيئة نحو أمواج البحر المتلاطمة بعنف .. كان نسيم البحر يداعب خصلات شعرها فيشعر طارق أن التي معه طفلة صغيرة ..
الشمس تشرف نحو المغيب .. والعصافير من حولهما تغرد بأصوات عذبة اختلطت مع أصوات الموج .. وغاب كل شيء مع حلول الظلام .. لكن ضوء القمر المنعكس على سطح البحر يبعث في النفس الطمأنينة .. ما أجملها من لحظات .. هكذا كان طارق يهتف لنفسه بصوت ليس له صدى ..
وعندما اقتربت الغيوم تعانق ضوء القمر .. لمع ضوء البرق في السماء .. وبدأت السماء تمطر ماءها العذب .. خلع طارق معطفه ليحمي منار من ذلك البرد الذي بدأ يقتحم صمتهما الذي يزخر بكل أنواع المعاني .. تزايد هطول المطر .. ووجد طارق نفسه يركض مع منار نحو الأفق .. حتى اختفيا عن العيون ..
وهنا استيقظ طارق من نومه .. لقد كان يحلم .. إنه يشعر بقلبه ينبض بعنف .. نظر إلى النافذة ليتأكد من أن السماء تمطر .. لكنها لم تكن كذلك .. حاول أن يتذكر ملامح منار التي رآها في منامه .. لكنه عجز عن ذلك ..
*** *** *** *** *** *** ***
عندما فتحت منار بريدها الالكتروني وجدت رسالة من طارق .. وكعادتها بدأت بقراءة الرسائل الأخرى وجعلت رسالة طارق هي الأخيرة .. كان تفعل ذلك لأنها تعتقد أن قراءتها لرسالة طارق تأخذ زمنا طويلا .. ولأنها أيضا كانت ترغب أن تكون كلمات طارق هي آخر ما تقرأ فلا تنساها .. ولكنها تفاجأت كثيرا عندما فتحت رسالة طارق ولم تجد فيها إلا سطرا واحدا فقط .. كان يقول :
" سأنتظرك عند الساعة العاشرة .. هناك شيء هام أريد أن أقوله "
لم تدري منار لم شعرت بقلبها ينقبض عندما قرأت هذه الرسالة .. قرأت العبارة أكثر من مرة محاولة أن تصل إلى ذلك الشيء الهام الذي يتحدث عنه طارق .. كانت هناك فكرة واحدة تقلقها لكنها تلح عليها كثيرا .. واعترفت منار لنفسها .. إنها تخشى أن تفقده ..
كانت فكرة أن يقول لها :" وداعا " أمر مؤلم بالنسبة لها .. إنها لا تعرف هل هو الذي وجدها أم هي التي وجدته .. لكنه متأكدة من شيء واحد .. إنها لا تريد أن تفقده .. لذلك كانت تحاول قدر الإمكان ألا تثير ضيقه .. وشعرت منار أن الوقت الذي يفصلها عن الساعة العاشرة طويل جدا رغم أنه لا يتجاوز الخمس ساعات ..
*** *** *** *** *** *** ***
رغم أن طارق دخل الانترنت قبل أكثر من عشر دقائق من موعده مع منار .. إلا أنه تفاجأ بوجودها ضمن قائمة المتصلين .. كانت هي المبادرة بالتحية .. ولم تنتظر إجابته .. بل أسرعت تسأله دون شعور :
- خيرا يا طارق ؟؟ ماذا تريد أن تقول ؟؟
شعر طارق بأن الكلام الذي رتبه في ذهنه واستعد لقوله يضيع منه .. مشاعر شتى كانت تعصف به في ذلك الوقت .. حاول أن يسترد أنفاسه وهو يقول :
- هل أنت هنا منذ فترة طويلة ؟
أدركت منار أن طارق يحاول أن يتهرب من سؤالها .. وبدأت كلمة واحدة تتردد في ذهنها .. وداعا يا منار .. كتبت له بعد لحظات من الصمت :
- ليس مهما متى أتيت .. المهم أني أتيت لأسمع منك ماذا تريد أن تقول ..
تنهد طارق بقوة .. ثم استجمع شجاعته وقال :
- لي رجاء واحد .. ألا تغضبي مني أو تغيري نظرتك عني ..
أجابته وقد شعرت بأن صبرها يكاد ينفد :
- لا تقلق يا طارق .. هيا قل أرجوك ؟؟
شعر طارق بأن يده أصبحت ثقيلة فوق لوحة المفاتيح وأنفاسه بدأت تتسارع وهو يكتب لها :
- منار .. أنا أحبك ..
وعاد الصمت يسيطر على الموقف من جديد ..
اتجه نواف إلى باب منزله ليفتحه بعد أن سمع رنين الجرس ، كان يمشي بتثاقل وهو يضم ذراعيه إلى صدره من برودة الجو ويقول متثائبا :
- أنا قادم .. لحظة من فضلك ..
وعندما فتح الباب وجده طارق .. استغرب نواف حضوره في هذا الوقت .. إلا أنه سرعان ما نفض الأفكار من رأسه ودعاه إلى الدخول مرحبا به .. لاحظ نواف أن ملامح طارق جامدة وكأنها اكتسبت صلابتها من الجو البارد .. وعندما جلسا في الغرفة كان أول شيء يفعله نواف هو أن قدم كوبا من الشاي إلى طارق ، ثم سأله باهتمام :
- طارق ماذا هناك ؟؟ إنك تريد قول شيء أليس كذلك ؟؟
انطلقت من طارق زفرة قوية .. ثم سرد لنواف ما حدث له مع منار .. كان نواف يصغي باهتمام .. وبعد إن انتهى طارق ابتسم نواف قائلا :
- يبدو أنك تعريفك للحب الآن يختلف عن تعريفك له سابقا ..
تجاهل طارق هذا التعليق .. ونظر إلى عيني نواف ثم قال :
- نواف .. ماذا بعد الحب ؟؟
تفاجأ نواف بالسؤال .. لكنه أجاب بسرعة وبصوت واثق :
- المعاناة ..
*** *** *** *** *** *** ***
تأملت منار صورتها المنعكسة على المرآة وهي تقوم بتسريح شعرها في غرفتها .. ما زالت عبارة طارق ترن في أذنها .. " أحبك يا منار " .. لا تستطيع أن تصف شعورها عندما سمعت تلك العبارة .. كانت مزيج بين المفاجأة والذهول والفرح والخوف ..
كانت منار تحاول أن تفكر لماذا أحبها طارق ؟؟ إنها لم يرها فيعجب بجمالها .. ولم يسمع صوتها فيطرب له .. ووصلت إلى نقطة واحدة .. إنه معجب بذكائها .. ولكنها هذا الرأي لم يكن له قبول في نفسها لأنه يتجاهل أنوثتها ..
ثم انطلقت بتفكيرها إلى سؤال آخر .. هل هي تحبه ؟؟ لا تعرف لماذا تشعر بالارتباك عندما تفكر في هذا السؤال .. إنها لا تنكر أنها كانت تخشى من فقده .. فهل هذا هو الحب ؟ وفجأة شعرت منار بحنين إليه .. كانت ترغب في أن تحادثه .. التفت إلى جهاز الكمبيوتر ثم ألقت نظرة على ساعتها .. ما زال الوقت مبكرا موعدهما ..
وبينما كانت منار تتنقل بين أفكارها وحيرتها .. سمعت صوت والدتها تناديها لإعداد سفرة العشاء .. فأسرعت ترتب نفسها .. ثم غادرت غرفتها وأغلقت الباب بهدوء شديد .. وكأنها تخشى أن تزعج أحدا داخل الغرفة ..
*** *** *** *** *** *** ***
انطلقت ضحكة ساخرة من حنجرة داليا ابنة عمة منار وهي تقول :
- هذا هو وهم الحب يا منار ..
شعرت منار بالضيق لهذا التفسير وحاولت أن تدافع عن ذلك الحب الذي بدأ بذرة صغيرة في قلبها ويحاول أن ينمو بسرعة .. لكن داليا لم تمنحها الفرصة .. إنها تكبر منار بعامين لكن ذلك لم يمنع أن تكون بينهما صداقة قوية إضافة إلى القرابة التي تجمع بينهما .. كانت داليا تكمل وجهة نظرها قائلة بثقة :
- ما يدريك أنه لم يعرف فتاة قبلك ؟؟ وما يدريك أنه لن يعرف أخرى بعدك ؟؟ عندما يكون لدينا فراغ عاطفي فإن أول شخص يحاول أن يملأ هذا الفراغ سنتمسك به .. ولكن هل سيستمر ذلك طويلا .. لا أعتقد ..
اندفعت منار تقول بعصبية :
- غير صحيح .. فنحن لم نبحث عن الحب .. الحب هو الذي بحث عنا ..
ابتسمت داليا قبل أن تقول بهدوء :
- أنا لا أريد أن أضايقك .. ولكن لا تجعلي عاطفتك تتغلب على عقلك ..
ابتسمت منار هي الأخرى وقالت بصوت واثق :
- إن عقلي أحبه قبل قلبي !!
*** *** *** *** *** *** ***
تكررت لقاءات طارق ومنار على الماسنجر بشكل شبه يومي .. وفي كل يوم كان تقاربهما يزداد بصورة أكبر من الناحية الفكرية وكذلك العاطفية .. وذات ليلة .. كان طارق قد كتب لمنار بعد تردد :
- شعرت بالقلق عليك لعدم حضورك بالأمس .. خشيت أن أفقدك ..
اعتذرت منه منار وقالت بحرج :
- لقد كان لدينا ضيوف .. ولم أستطع أن أكتب لك رسالة على بريدك .. أنا آسفة ..
صمت طارق برهة وكأنه يفكر مليا بما يريد أن يقول .. ثم كتب :
- لا أحد يعلم ماذا يمكن أن يحدث في المستقبل يا منار .. وأنا أخشى أن لا أجدك في الماسنجر أو تنقطع رسائلك إلي لأي سبب كان .. لقد كنت أفكر بذلك ليلة أمس .. إنها فكرة مؤلمة جدا ..
لم تعلق منار بانتظار أن يكمل طارق كلامه وهذا ما فعله حيث كتب رقما ثم أضاف :
- هذا رقم هاتفي .. أنا لا أطلب منك أن تستخدميه .. ولكن أتمنى أن تحفظيه لديك .. فربما يكون ذا فائدة في المستقبل ..
تجاهلت منار الكلام السابق لطارق وكأنه لم يكن .. وسألته عن موضوع آخر .. وشعر طارق وكأن إبرة وخزت قلبه ..
*** *** *** *** *** *** ***
لأول مرة يشعر طارق بأنه قد تهور .. لماذا أعطاها رقم هاتفه ؟؟ شعر بهم ثقيل يجثم على قلبه .. ماذا ستقول عنه الآن ؟؟ أكثر ما يخافه هو أن تعتقد أنه شخص عابث يريد التسلية لا أكثر .. وهو يعرف أن ذلك غير صحيح .. إنه يحبها بدرجة كبيرة لم تخطر على باله .. لدرجة أنه يعاتب نفسه الآن خشية أن يكون تصرفه سبب لها ضيقا ..
كم يتمنى أن يعود به الزمن إلى الوراء حتى يحذف هذا التصرف الأرعن الذي قام به .. إنها لم تظهر رد فعل واضحة .. فقط تجاهلت ما حصل وكأنه لم يكن .. لكنها بالتأكيد بعد أن انتهى الحوار بينهما ستفكر كثيرا بما حدث .. فماذا لو كان قرارها أن طارق رسب في الامتحان ؟؟
نظر طارق إلى الساعة .. إنها تقترب من الساعة الثالثة بعد منتصف الليل .. إنه لا يستطيع النوم وهذه الأفكار تجول في ذهنه .. تنهد طارق بقوة ثم قال لنفسه يلومها : أي حماقة هذه الذي قمت بها !!</font>
مواقع النشر (المفضلة)