فتـــااة
إبراهيــم المنصــوري
كم هي سعيــدة تلك الفتــاة، فهي لم تتجاوز سن العشريــن، في ربيع عمرهــا، زهــرة لم تقطــف حتــى الآن من بستانهــا، مشرقــة كشمس الشروق، متفتحــة كزهر البنفسـج، متوردة كالكرز الأحمـر، يانعــة، جميــلة، رائعــة، طويلــة، وتكفي بسمتهــا الخجولــة، وقلبهــا الطيــب الرقيــق. قــد حان موعــد القطــاف، فهذا الشــاب اليانـــع الباسم الثغــر قــد تقــدم يطلــب يدهــا للزواج، فسعادتهــا تكمــن في أن فارس أحلامهــا بالفعل أتى على صهوة جواده الأبيــض وكما كانت تتخيله ، هو من كانت ترسم صورته قبل نومهـــا وهي تحض وسادتهـــا البيضــاء.
الاستعدادات قائمــة على أكملهـا، فالشـــاب بكــر ابيـــه، يريــد أن يفرح بــه، والفتــاة هي الأخرى أكبــر أخوانهــــا وأخواتها، أي أن مراسم الزواج قد تكون حديثــة على كلتــا العائلتيـــن. الأيـام تمضــي مسـرعة على أهل المعرس والعروس ولا تكفي لكي يلبوا كل احتياجات العرس، ولكنهــا تمشي بالعكس مع العروسيــن، بطيئــة كالسلحــفـــاة، يتمنون أن يناموا ويصحوا وهو في سرير الزوجيــــة.
الحمد لله كل الأمــور تيسـّـرت، وانتهى الزواج على خيـــر، والسعادة كما كانت في فترة الخطوبــة ما زالـــت مرسومــة على ثغور الجميـــــع وخاصة المعرس والعروس. تمضي السنين مسرعـة، ويأكل الدهــر من عمــر الزوجيـن، وقد يكون الشيء الوحيــد الذي ينسيهــم تلك السنوات التي تمضي مسرعــة من عمرهم هو الأبنــاء.
ومع مرور الليالي الرومانسية والأيام الجميلة، كان هناك شيءٌ أوحــد دائماً ما كان يقلق الزوجة السعيدة وهو ارتفاع معدل السكري لدى زوجهـا، عرض نفسه على العديد من الاختصاصيين ولكن دون جدوى، ما زال في مقتبل العمــر، من يراه من بعيـــد يشعر بأنه فتىً صغيـــر. مضت الأيام وهو في صراعاً مستمــر مع هذا الداء اللعين الذي لم يوجد له أي دواء.
أتت الطالمــة الكبـــرى، فقد اعتاد الزوج على أن يصطحب أبنــاءه إلى المدرسة وبشكل يومــي وخاصة بعدما أُحيــل للتقـــاعـــد بسبب حالتــه الصحيــة والتي سببها الرئيسي مرض السكري. فمع صيــاح الديــك، وارتفاع كلمـــات " الله أكـبــر" مدويــة في السمـــاء معلنـــة وقت دخول صلاة الفجــر، سقط الجميـــع.
ما زالت المرأة تحاول أن توقض زوجها للصلاة لكن دون جدوى، هرعت لأبنــاءهــا مستنجـــدة بهــم، اصطحبوه بسرعه إلى المستشفى ولكن قد فات الأوان وأعلنت فترة الحداد.
ارتسم الحزن على هذا البيــت الذي كان يغمره الحـب والحنــان وكل المعاني الجميلــة، قد تناسى البعض موت الأب وقد حاول البعض الآخر أن يتناسى ولكن كيف للزوجــة أن تنسى شريك حياتــهــا، أيستطيع أحدٌ منــّــا أن ينسى نفســـه، كان اقرب إليها من نفسهـــا، هو من كان يعتني بهــا عندمــا تمرض، وهو من سهــر الليالي من أجلهـــا، لن تنسى تلك الفترة التي أخذ فيها اجازة من عملـــه لكي يجالسها وهي في الشهــر التاســـع من حملهـــا، ولن تنسى نظراته الخائفة عليــهــا وهي تضع له أول أبنــاءه، كان معهــا في غرفــة الولادة وهو يشد من أزرهــا وهو من يحتااج لمن يسانده ويطمأنــه عليــهـــا كاحتياج التائهــة في الصحراء لعلامــة ترشده للطريق السليـــم. هداياه تملأ المكـان، في كل زوايــة من زوايا البيــت لهم ذكرى، سواء أكانت سعيــدة أو حزيــنــة، حتى الوســـادة الطويلـة اشتااقــت لأن ينام عليهـــا اثنــــان.
هي بالفعل وحيدة نائمــة في وسط تلك الغرفة الكبيـــرة، حائرة ضائعــة تحتاج لم يقــف معهــا في هذه المحنـــة، حاولت بشتى الطرق أن تنسي نفسهــا عذاب العمــر، أو كما كانت تطلق عليها فاجعــة العصـــر. مات من كان يحميهـــا، من كانت تستظل في ظلــه، من كان يشعرهــا بالأمــان، من كان يشقى ويتعب ليأمن لها ولأبناءهم لقمــة العيــش لعيشوا حياة رغيــدة.
بعد مضي الثلاث شهور وقفت من جديد ظاهرياً، حاولت أن تكون الأب والأم لهؤلاء الأبنــاء (( الأيتــــام ))، باطنيــاً لم تستطع فصورته مرسومة في جدران البيــت، في كل مكان، حتى المطبـــخ، أواني الأكل هي من اشتاقــت للمسات أصابعــة، مات من كان يشعل البيت سعادة.
حتى كرسي الحديقـــة كساه الغبــار، وثيابهــا الأنيقـــة امتلأت بالدموع ، هي ليست دموع بسيطــة، بل هي قطرات دم من قلب بائس ويائس، جسد يعيش بلا روح. مااااات الرجل ماااات !!!
والمعـــذرة
..
مواقع النشر (المفضلة)