من قــديــم ما كـتــبـــت ,,
لحظــات في حيـــاة رجــل تـــائـــهإبراهيــم المنصـــوري
أجواء مدينة ( امستردام ) الهولنديـة جميلة للغايــة، فهي على عكس ما نعيشــه معظم الوقت في بلداننــا الخليجـيــة ، حيث الحر الشديد والرطوبة المرتفعـة والضغوط العاليــة سواء أكان السبب من الجو أو من البشــر. اعتدت على السيــر في الصبــاح الباكــر بين العمارات مع وجود نفات مطر بشكل مستمر ويومي في تلك الأجواء المغيـّــمــه، اذهب لتناول فطوري في أي ( كوفي ) قريب من الفندق الذي اقطنه مع أصدقائي الثلاثـة والذين يقبعون في تلك الغرفـة في نوم عميق بسبب سهراتهم الليلـيــة، والتنويع مطلوب في المحلات لتجد الأفضل وتواضب عليــه. ذات يوم وأنا اتنقل لأتبضع بعض الهدايا قبــل العودة للجــو ( النــار )، لفت انتباهي شخص لطالمــا لمحتــه ولكــن دون أن أعيــره أي اهتمـــام، يحمل في يديه السوداويتين مزمار شرقي قديم، اعتاد على أن يعزف عليــــه، وقفت لبرهــة أتأمل في ذلك الجسد المتهالك، ويبدو على صاحب المزمار أنه من أصول عربيـــة. أغلب قاطني البلدة من الأجانب، يضعون بعض النقود المعدنية لذلك العازف، جلست على كرسي قريب من كرسي العازف، اشاهد الناس وهم يقفون وينصتون لعزفـه الأنيــق والذي لا يعكس مظهره الخارجي. بعد الأنتهاء ذكّــرني صوت بطني بأن موعد وجبة الإفطار قد حان ولابد أن اذهب حتى اشتري ما اريد. لظروف الحرب في منطقة الخليج وخاصة مع غزو الأمريكان لعراق الأصالـة، قررنا أن نمدد الرحلة أسبوعاً آخراً تجنبــاً لمخاوف التحليق فوق تلك المنطقــة، وكم هي فضيعة تلك الصور التي تتصدر الصفحات الأولى من الجرائد اليوميـة. بعد مضي أيـــام على مكوثنــا الإضطراري في هذه البلدة، اعتدت في كل صباح على ان اذهب واستمع لتلك المعزوفات الجميلة من ذلك الشخص. في اليوم الثالث من مواضبتي على سماعــه، شعرت بفضول ينتابني ويدفعني للحديث مع ذلك الشخص المسكين والبائـس. تقدمت بعدما انهى معزوفتــه التي يتقطع لها القلب عند سماعها وخاصة بعد ذهاب الناس من حولــه، حادثتـــه بلغة عربيــة بدأتها بالسلام وقال لي: كيف عرفت بأني عربي؟ رد علي السلام وبدأت اتحدث معه عن جمال هذه المدينــة. حدثني قليلاً عن الشعب الهولندي ثم تركتــه ذاهبــاً. في اليوم التالي عادت الأسطوانة لما كانت في اليوم السابق. ولكن هذه المرة تشعبنــا في الحديث لأنني في الليلة الماضية تتبعتــه لأراه نائمــاً عند إحدى قمامات امستردام الأنظف من شوارعنــا العامــة.قال لي بانه اعتاد على النوم في تلك الأماكن، وأن أصحابه نصحوه باقتناء بيت له يلمه ويكون مؤوى له. ولكن رفض وقال بأن كل شخص يعلم ما يجب أن يفعله وأن تلك القمامات هي مسكنه.تجولت معه قليلاً بين العمارات لأراه يجلس ويخرج سيجارة رأيته يلفها بنفســه. قال لي بأنه مدمن على المخدرات ومنذ فترة ليست بالقصيــرة. رغم بشتره الحنطاويه إلا أن أصابعه شديدة السواد من القاذورات.ذهبت عنه وبدأت افكر في هذا الشخص الذي لا حول له ولا قوة، أهو القدر الذي أوصله إلى هذا الحد أم أن هناك أسباباً يخفيها خلفــه!!
ومع حلول العصر، رأيتــه قرب حديقة جميلة في إحدى أحياء المدينـة، تابعتــه من بعيــد بحيث لا يراني، شاهدتــه يقف خلف سور الحديقــة، وعيناه لا تبرح أحد الأطفال، يشاهده بتأمل، ورأيت الدموع تتساقط ولكن سرعان ما مسحها حتى لا يلحظ عليه أحد تلك الدموع، اشار باصابعه المخيفة باتجاه الطفل الذي لم يتعدى السنتين، تقدم الطفل باتجاهه، ولكن سرعان ما أتى أب الطفل وأخذه معه وفي نفس اللحظه اختبأ خلف تلك الأشجار حتى لا يره أحد. اقتربت منه وعندما علم بأنني كنت اراقبــه قال: فقدت عائلتي منذ ثمان سنوات، فقد طلبت زوجتي الطلاق لأني فقيرٌ لا أملك ما يسد حاجتنـــا، ولا اعلم أي شيء عن أطفالي الثلاثة. ومنذ ذلك اليوم وأنا على هذا الوضع. اصطحبتني احدى الهولنديات إلى هنا بعدما تعرفت عليها في إحدى الحانات في بلدي الأصلي المغرب. أوهمتني بأن بامكاني العمل في أي وظيفة في بلادهــا، وعندما قدمت إلى هنا بطريقة غير شرعيــة لم أجد وظيفــة سوى عامل نظافـــة. قلبي ومع كل كلمة منه يتقطع وكأن أحداً يمزقــه بسكيــن، تساقط الدموع على تلك الثياب السوداء. وعندما رأى مشاعر الشفقة في عيني. تركني مسرعاً راكبـاً ( الميترو).
في صباح اليوم التالي، حيث لم يبق على موعد رحيلنا إلا يوميــن، ذهبت إلى تلك الساحة باحثاً عن ( الشاطر حسن ) كما يطلق عليه أصحابه والمقربين له. لم أجده في تلك الساحة وقد كان غيابه يشكل لغز غريب لدي. بحثت عنه في كل مكان اعتاد الذهاب إليه، سألت رفاقه والذين ليسوا بأفضل من حالتــه، فكم هم كُثــار أمثال الشاطر حسن. لم يشاهده أحد منذ البارحــة. قبل موعد رحلة العودة وعندما كنت اتناول غداءي في أحد المطاعم القريبة من الساحـة ،أتى إلي أحد المتسولين أصحاب الشاطر حسن وقال لي بأنهم عثروا على الشاطــر حســـن. عثروا على جثتــه معلقــة بحبل شانقــاً نفســــه في إحدى قمامات امستردام !!
مواقع النشر (المفضلة)