منذ شبابه الأول أحس إسكافي الحي الذي أقطنه أن صلة روحانية صارت تربطة بالأحذيه التي يصلح أعطابهــا ، ما إن يلمس جلد الحذاء حتى تتفتح ذاكرته وكأنه منوم مغناطيسياً ، ويشرع الحذاء في سرد وقــائع الطرق التي مشاهــا والدرب المحرمه التي خاضها .
ذات مساء كنت أجلس بجانبه وهو يصلح حذاء أحد الماره ، وبين الفينة والأخرى يرمق الشاب الذي واقف بجانبه أي الذي يصلح حذاءه يرمقه شزراً ثم يبتسم ، طلب له كــأس شاي وقال : ( أنت عفريت . ولا يبدو عليك ذلك أين كنت مساء الخميس الماضي ؟) وراح يسرد أمامي وما جعل العرق يتصبب من جبين الرجل ويصبه بالدهشه واللغوب ، وبعد أن أنهيت رشفت الشاي انا والرجل حدثنا عن صلته بروحانيه عالم الأحذيه .
طبعاً من يومهــا لم يعد الرجل يصلح أحذيته عنده ، لكنــي انتبهت إلى العلاقه الخفيه بين الحذاء وصاحبة ، الحذاء كتوم لا يفشي الأسرار ، يراقفنا إلى المواعيد الحلال والمواعيد الحرام ، يسمع كل شيء ، الحديث عن الطقس ، وهمهات آخر الليل ، ويظل صامتــاً لا يرفض السفر مع صاحبه ، لا يتكاسل ، ، حين ننام ليلاً نضعه تحت السرير ، أو في غرفة مجاوره أو في الحمام ، تلتقط أذنــاه حوارتنا الدافئه ويخزنهــا في بئره الكتوم ، إنه أكثر وفــاءً من بعض الأصدقــاء ، حين يتقدم به العمـر ، نرميه في صناديق القمامه ، ولا ينزعج أو يتوعدنــا بالانتقام بفضح الأسرار .
رويت لأحد الزمــلاء ما حدث للرجــل مع الاسكافــي حين كنت جالســاً فقال : ( لو أن حذائي ينطق بجملة واحدة لهجرت معارفــي إلى قاره بعيده ، الحمدلله أن الأحذيه من دون ألسنه ..) وقــال آخر: ( إن زمــلائي لا يعرفون عن حركاتــي خارج مؤسسة العمل شيئــاً ..أبدو أمامهم محترمــاً ، قليل الكلام ، صارمـاً في أداء واجبي الوظيفي ، وحده حذائي أحس أنه يبتسم أحيانــاً وكــأنه يقول لي :( أيهــا المزور ، يا لا بس القناع ما رأيك لو أتحدث عن مغامراتك في الاسبوعين الأخيرين فقط ؟..) وأجبه في سري ( لو نطقت لقطعت لسانك ، ثم انتبه إلى أنه مجرد حذاء لا لسان له ، مثل جميع الأحذيه ..) وقالت إحدى الزميلات :( لو أن الأحذيه تتكلم لمشت النساء حافيــات ، وأشاعت دور الموضه في الصحف النسائيه أخباراً عن أهمية المشي من دون أحذيه ، ولدافعت جمعيات الدفاع عن حقوق المرأه عن حرية نساء العالم في عدم لبس الأحذيه ، معتبرة ذلك جزءاً من حقوق الإنسان كل ذلك من أجل أن تبقى البئر مغطــاه ، ولا يكتشف الرجــال بعض كيد النساء ) ثم نظرت إلى حذائها وكــأنها تقول له : ( حين نعود إلى البيت سأعطرك وابتداًَء من هذه الليله ستنام في صندوق من القطن ، أيهــا الوفــي الصامت )
والآن عزيزي القارئ ألا تلقي نظرة احترام إلى حذائك وتقول له ولو سراً : شكراً [/color]
تقبلــوا أحترامي وتقديري
أختكم
" عيون خورفكان "
مواقع النشر (المفضلة)