اعرف نفسك للشيخ علي الطنطاوي ..
إنكم تسمعون كل يوم احاديث في الجد والهزل ، وفي الخير وفي الشر ، أحاديث تدعوا إلى الوطنية ، وأحادث
تسمو بالخلق ، واحاديث فيها متعة وفيها تسلية ، ولكن حديثي الليلة أهم من هذه الأحاديث كلها ، لا لأني أنا كاتبه
ـ أعوذر بالله من رذيلة الغرور ـ بل لأنه أمس الموضوعات بكم ، وأقرب إليكم ، ولأنه دعوة لكم لتعرفوا أنفسكم
لا تضحكوا يا سادة ولا تظنوا إني أهزل ، ولا تقولوا : من منا لا يعرف نفسه ؟ فقديما قال سقراط : " أيها الإناسان
اعرف نفسك " .
ومن يوم سقراط إلى هذه الأيام ، لم يوجد في الناس ( إلا الأقل منهم ) من عرف نفسه ! .
ومتى تعرف نفسك يا أخي ، وأنت من حين تصبح إلى حين تنام مشغول عنها بحديث ، او عمل ، أو لهو ، أو كتاب ؟
ومتى تعرف نفسك يا أخي وأنت لا تحاول أن تخلوا بها ساعة واحدة كل يوم ، تفكر فيها ، لا يشغلك عنها تجارة
ولا علم ولا متاع ؟
ومتى .... أنت أبدا تفكر في الناس كلهم إلا نفسك ، وتحدثهم جميعا إلاها ؟
تقول وأنا ... فهل خطر على بالك مرة واحدة أن تسأل : " من انا " ؟ هل جسدي هو ( أنا ) ؟ هل أنا هي هذه الجوارح
والأعضاء ؟
إن الجسم قد ينقبض بعاهة أو مرض ، فتبتر رجل ، أو تقطع يد ، ولكن لا يصيبني بذلك نقصان ! من أنا ؟
ولقد كنت يوما طفلا ، ثم صرت شابا وصرت كهلا ، فهل خطر على بالك أن تسأل : هل هذا الشاب هو ذاك الطفل ؟
وكيف ؟ وما جسمي بجسمه ، ولا عقلي بعقله ، ولا يدي هذه يده الصغيرة فأين ذهبت تلك اليد ؟ ومن أين جاءت
هذه ؟
إذا كانا شخصين مختلفين ، فأيهما أنا ؟ أأنا ذلك الطفل الذي مات ولم يبق في من جسده ولا فكره بقية أم أنا
الكهل الذي يلقي هذا الحديث ؟ أم أنا الشيخ الذي سيأتي على أثره بجسمه الواني وذهنه الكليل ؟ ما أنا ؟
وتسمع في الصباح جرس الساعة يدعوك إلى القيام ، فإذا فكرت في النهوض ناداك منك مناد أن تريث قليلا ،
واستمتع بدفء الفراش ، ولذة المنام ، ويتجاذبك الداعيان : داعي القيام وداعي المنام ، فهل تساءلت ما هذا ؟
وما ذاك ؟ وما انت بينهما ، ومالذي يزين لك المعصية ؟ ومن يصور لك لذتها ، ويجرك إليها ؟ ومالذي ينفرك
منها ، ويبعدك عنها ؟ يقولون إنها النفس وإنه العقل .
فهل فكرت يوما مالنفس الأمارة بالسوء ؟ ومالعقل الرادع عنه ؟ وما انت ؟ ويعصف بنفسك الغضب حتى
ترى اللذة في الأذى ، والمتعة في الانتقام ، وتغدوا وكأن سبعا حل فيك ، فصارت إنسانيتك وحشية ـ ثم يسكت
عنك الغضب ، فتجد الألم فيما كنت تراه لذة ، والندم على ماكنت تتمناه .
وتقرأ كتابا في السيرة ، أو تتلو قصة ، أو تنشد قصيدة ، فتحس كأن سكن قلبك ملك ، فطرت بغير جناح إلى
عالم كله خير وجمال ، ثم تدع الكتاب ، فلا تجد في نفسك ولا في الوجود أثرا من ذلك العالم .
فهل تساءلت مره ما أنا ؟ ومن هؤلاء ؟ أأنا ذاك الإنسان الشهوان الذي يستبيح في لذته كل محرم ويأتي كل
قبيح ، أم ذلك الإنسان البطاش الذي يشرب دم أخيه الإنسان ، ويتغدى بعذابه ، ويسعد بشقاءه ، أم ذلك الإنسان
السامي الذي يحلق في سماء الطهر بلا جناح ؟ أسبع أنا أم شيطان أم ملك ؟
أتحسب أنك واحد وأنك معروف ، وأنت جماعة في واحد ، وأنت عالم مجهول ، كشفت مجاهل البلاد ، فهل حاولت
مرة أن تدخل إلى نفسك فتكشف مجاهلها ؟
نفسك عالم عجيب ، يتبدل كل لحظة ويتغير ، ولا يستقر على حال ، تحب المرء فتراه ملكا ، ثم تكرهه فتبصره
شيطانا ، وما ملكا كان قط ، ولا شيطانا ، وما تبدل ، ولكن تبدلت حالة نفسك .
تكون في مسرة فترى الدنيا ضاحكة ، حتى أنك لو كنت مصورا لملأت صورتها على لوحتك بزاهي الألوان ، ثم
تراه وانت في كدر ، باكية قد غرقت في سواد الحداد ، وما ضحكت الدنيا قط ولا بكت ، ولكن انت الضاحك الباكي .
فما هذا التحول فيك ؟ وأي أحكامك على الدنيا أصدق ؟
وإذا أصابك إمساك ونالك منه صداع ، ساءت عندك الحياة ، وامحى جمال الرياض ، وطمس بهاء الشمس ،
واسود بياض القمر ، وملأت الدنيا فلسفة شؤم إن كنت فيلسوفا ، وحشوت الأسماع شعر بؤس إن كنت شاعرا ،
فإذا زال ما بك بقدح من زيت الخروع ، ذهب التشاؤم في الفلسفة ، والبؤس في الشعر ، فما فلسفتك يا أيها
الإنسان وما شعرك إن كان مصدرها فقط قدح من زيت الخروع ؟
وتكون وانيا واهي الجسم ، لا تستطيع حراكا ، فإذا حاق بك الخطر ، أو هبط عليك فرح ، وثبت كأن قد نشطت
من عقال ، وعدوت عدو الغزال ، فأين كانت هذه القوة الكامنه فيك ؟ هل خطر على بالك أن تبحث عن هذه القوة
فتحسن استغلالها ؟ إن النفس يا أخي كالنهر الجاري ، لا تثبت قطرة منه في مكانها ، ولا تبقى لحظة على
حالها ، تذهب وتجيء غيرها ، تدفعها التي هي وراءها ، وتدفع هي التي أمامها .
في كل لحظة يموت واحد ويولد واحد ، وأنت الكل ، وأنت الذي مات وأنت الذي ولد ، فابتغ لنفسك الكمال أبدا ،
واصعد بها إلى الأعالي ، واستولدها دائما مولدا اصلح وأحسن ، ولا تقل لشيء ( لا أستطيعه ) فإنك لا تزال
كالغصن الطري : لأن النفس لا تيبس أبدا ، ولا تجمد على حال ، ولو تباينت الأحوال .
فيا أخي اعرف نفسك ، واخل بها ، وتساءل دائما مالنفس ؟ ومالعقل ؟ ومالحياة ؟ ومالعمر ؟ وإلى أين المسير ؟
ولا تنس أن من عرف نفسه عرف ربه ، وعرف الحياة ، وعرف اللذة الحق التي لا تعدلها لذة ، وأن اكبر عقاب
عاقب به الله من نسوا الله أنه أنساهم أنفسهم !
.................
أتمنى لكم الافادة كما أفدت من طرحه صدقا ..
والمعذرة .. !
مواقع النشر (المفضلة)