لطـالما كـنت من المتابعين لسلسلة بريــد الجمـعة للمرحوم عبدالوهاب مطاوع ولطالما اعجبت باسلوبه الرقيق بالرد على من يكتب له .

قصــة ورد اعجبــني فحبيت انقلها لـكم
-------------------------------------------------------------------------------------------

حصاد الصبر‏!‏

أكتب لك هذه الرسالة في مناسبة مهمة في حياتي أردت أن أشركك معي فيها وأن أذكرك بدورك الذي قد تكون نسيته الآن في اتمامها‏..‏ فأنا مهندس شاب بوزارة الري عمري‏38‏ عاما‏..‏ وأما بداية القصة فلعلك تذكر الرسالة التي نشرتها منذ أكثر من عامين بعنوان الإصرار وكانت لسيدة متزوجة ولها طفلتان تروي لك فيها عن جارتها الشابة الجميلة البالغة من العمر‏29‏ عاما وتقيم بجوارها في شقة وحدها‏..‏ وتقول لك في رسالتها ان قصة هذه الفتاة قد بدأت منذ سنوات حين كانت في طريقها إلي كليتها بجامعة عين شمس فصدمتها سيارة مسرعة وحملها المارة إلي المستشفي فتبين أنها قد أصيبت للأسف بشرخ في العمود الفقري‏,‏ وبعد رحلة عناء طويلة بالمستشفيات في الداخل والخارج‏,‏رجعت إلي حياتها جالسة فوق مقعد متحرك‏,‏ ولم تترفق بها الأقدار فرحلت أمها عن الحياة بعد قليل‏,‏ ووجدت نفسها وحيدة في مسكنها الخالي بعد زواج الإخوة‏,‏ وانشغال الأب الذي يقيم في مسكن آخر بحياته وأعماله‏,‏ ولأن كل إنسان مشغول بحياته فلقد أصبحت هذه الفتاة الطيبةالجميلة تقضي معظم أوقاتها وحيدة تماما في مسكنها المجهز بكل الأجهزة وتقوم بشئون نفسها وتنظف شقتها وتطهو طعامها‏,‏ وتقدم إليها رجل متزوج فرفضت أن تطلب سعادتها علي حساب تعاسة إنسانة أخري‏,‏وتقدم إليها من جاءها طامعا في مالها وحده فرفضته لأنها ترجو أن يجمعها ربها بمن يرغبها لنفسه فتحبه ويحبها‏,‏ وفي النهاية طلبت منك هذه السيدة الفاضلة أن تكتب لجارتها الشابة أن الاعاقة ليست نهاية الحياة وأن أحلامها ممكنة التحقيق حين يأذن الله بذلك‏.‏
ونشرت الرسالة ورددت عليها بما ألهمه الله لك من كلمات طيبة ومشجعة مؤكدا للفتاة ولمثيلاتها أن نسبة نجاح الزواج واستمراره في الحالات الإنسانية الخاصة أعلي منها بقدرملحوظ في الحالات العادية‏,‏ وأن خبراء الاستشارات الأسرية في الغرب يرجعون ذلك إلي أن درجة الاصرار علي النجاح تكون عالية للغاية عند الطرف الذي يعاني من الحالةالإنسانية‏,‏ فيبذل كل ما في وسعه لانجاح الزواج ويجد ذلك صداه المتوقع لدي الطرف الآخر فيتجاوز الطرفان الهنات الصغيرة التي قد يتوقف عندها الآخرون في الظروف الطبيعية‏.‏
وفي هذه الفترة كنت أمر بأزمة نفسية شديدة بسبب عاصفة الأحزان التي هبت علي حياتي قبل فترة قصيرة‏,‏ وليلة نشر هذه الرسالة كان ألمي قد بلغ مني حدا مضاعفا‏,‏ وشكوت إلي صديق متدين ما يضيق به صدري فنصحني بأن أدعو ربي في صلاة الفجر كل ليلة بهذا الدعاء‏:‏ رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير‏,‏ وسألني لماذا لا أمضي هذه الليلة معه في المسجد حتي نصلي الفجر معا عسي أن يذهب الله عني الحزن‏,‏ واستجبت لما نصحني به وأمضيت تلك الليلة معه في المسجد قائما أصلي‏..‏ أو جالسا أقرأ القرآن الكريم‏,‏ أو متأملا في صمت‏..‏ وفي الصباح المبكر خرجت إلي الشوارع واشتريت الصحيفة فوجدت فيها قصة هذه الفتاة فشعرت بأنها قد تكون ضالتي التي أبحث عنها دون جدوي‏,‏ ووجدت نفسي أكتب إليك معلقا علي قصتها‏.‏
ونشرت رسالتي بعنوان العاصفة ورويت لك فيها أنني مهندس عمري‏36‏ سنة ـ وقتها ـ وانه كانت لي ذات يوم قريب أسرة صغيرة وزوجة غير مصرية تزوجتها بالرغم من معارضة أهلي لزواجي منها‏,‏ وان هذا الزواج كان بداية لعاصفة من الأحزان في حياتي الخاصة حيث رحل أبي عن الحياة عقب زواجي مباشرة‏,‏ ومن بعده أمي أيضا يرحمهما الله‏,‏ ثم لم يمض وقت طويل علي رحيلهما حتي سقطت طفلتي الوحيدة من الدور الثالث بسبب إهمال أمها في رعايتها‏,‏ ورحلت هي الأخري عن دنيا الألم والأحزان‏,‏ فلم أستطع احتمال الحياة مع زوجتي بعد ذلك وانفصلت عنها بالطلاق‏,‏ وعشت وحيدا في شقة باحدي المدن الجديدة ولم يعد لي من أهل سوي شقيقين يقيمان في حي بعيد‏,‏ وفي ختام رسالتي إليك تساءلت تري هل تقبل هذه الفتاة الارتباط بي علي سنة الله ورسوله عسي أن يواسي كل منا الآخر ويعوضه عن وحدته وأحزانه الماضية؟‏..‏ وبعد أيام من نشر الرسالة زارتك هذه الفتاة في مكتبك فوق مقعدها المتحرك يصحبها عمها‏,‏ وقمتم بتسليم العم عروض الارتباط التي تلقاها مكتبكم بشأنها‏,‏ وفوجئت بعد أيام باتصال من والدها بي يدعوني فيه إلي مقابلته في بيته‏,‏ فتوجهت إليه مستبشرا ومؤملا أن يحقق الله لي أمنيتي في السعادة والأمان‏,‏ فكان لقائي الأول بالأب في مسكنه الذي يعيش به مع ابنه الأصغر وحدهما ولم أجد الفتاة المقصودة‏..‏ وشرحت للأب ظروفي ورغبتي في الارتباط بابنته فلمست منه التحفظ وعدم الترحيب‏,‏ ثم طلب مني الانصراف بعد قليل لأن هناك زائرا آخر عن طريق ‏««‏بريد الجمعة‏»»‏ سيحضر لمقابلته بشأن ابنته‏!‏
وانصرفت متخاذلا ومتشائما وشكوت لصديقي الذي علمني الدعاء المفضل‏,‏ مالقيت من تحفظ الأب وعدم ترحيبه بي‏..‏ وأرجعت ذلك إلي ظروفي كمطلق‏..‏ فسألني ولماذا لاتطرق بابا آخر كعمها مثلا‏,‏ ونفذت النصيحة وتم اللقاء بيني وبين هذه الفتاة لأول مرة في بيت عمتها‏,‏ فما إن التقيت بها والتقت بي حتي قضي الأمر الذي كنتم فيه تختلفون‏..‏ وشعرت بأنها الفتاة التي كنت أبحث عنها من قديم الزمان‏,‏ وقالت هي لعمتها عني انني الشخص الذي رأته في أحلامها يأتي إليها‏..‏ ويملأ فراغ حياتها بالحب والحنان‏..‏ واتفقنا علي الارتباط‏..‏ لكني علمت أن والدها لايشعر تجاهي بالارتياح وانه يرفضني لأسباب مختلفة منها ظروفي السابقة ومنها انه تساوره الشكوك في نيتي في استغلال ظروف ابنته الإنسانية‏..‏ والاستفادة من مالها وهو مبلغ حصلت عليه كتعويض من جامعة عين شمس عن الحادث الذي تعرضت له وتحتفظ به كوديعة في البنك‏,‏ ولم أغضب من الأب‏,‏ لكني حزنت وتعجبت كيف يصد عن ابنته شابا يرغب في الارتباط بها لمجرد ظنون ليس هناك أي دليل عليها‏..‏ وأي مال يمكن أن يسعي إليه شاب مثلي فقد طفلته الوحيدة قبل عامين ويعاني من وحدته وأحزانه؟‏!‏
ولم أدر في حينه بما دار بشأني بين الأب وابنته‏,‏ لكني علمت فيما بعد أنه رفضني‏,‏ وان ابنته تمسكت بي بشدة وأعلنته برغبتها في الارتباط بي فاستجاب لها بضغط من شقيقه وشقيقته‏.‏ وذهبت للقائه في مسكنه أخيرا وقرأنا الفاتحة‏,‏ واستجبت لكل مطالبه بلا ممانعة‏..‏ قال لي ان مسكني بعيد وفي الدور الثالث ولا يصلح لابنته‏,‏ فوعدته بتغييره وسعيت إلي بيع شقتي بالمدينة الجديدة‏,‏ وقبلت بيعها بثمن بخس‏,‏ حدد قيمة الشبكة والمهر والمؤخر فقبلت بكل ما أراد‏,‏ طلب مني أن أعطيه ثمن الشقة بعد بيعها ليودعه في البنك باسمه إلي أن أحضر الشقة الجديدة ولكيلا أتنصل من وعدي باحضار شقة أخري لابنته غير شقتها التي تقيم فيها وحيدة وهي صغيرة‏,‏ فقبلت بذلك ووعدته به ونفذته فيما بعد بالفعل‏..‏ كل ذلك وأنا سعيد ومتفائل وأشعر بأن كل لقاء بيني وبين هذه الفتاة يقرب بيننا والأب علي ما هو عليه من تحفظ وعدم حماس‏..‏ وحددنا موعد عقد القران في المسجد ورفض الأب أن يشتري لابنته فستانا أبيض رغم قدرته المالية ولا أن يسمح لي بشرائه‏,‏ وقبلنا بذلك صامتين‏,‏ ورفض استدعاء كوافيرة لزينة المحجبات من مثيلات ابنته وقبلنا بذلك راغمين‏,‏ ورفض أن تذهب معي لشراء الشبكة‏,‏ ولم أعترض علي ذلك وتم عقد القران في تحفظ أقرب إلي التجهم والجفاء الصامت منه إلي الفرحة والابتهاج‏,‏ وانصرف الأب عقب عقد القران وحملتنا السيارة إلي مسكن زوجتي‏,‏ فما إن اقتربنا منه حتي بدأ الفرح الحقيقي الذي لم نجده من قبل‏..‏ فلقد التف حولنا جيران زوجتي الطيبون ومنهم السيدة الفاضلة التي كتبت لك عنها‏,‏ وبدأ الطبل والزمر والغناء والزغاريد والابتهاج الصادق الصادر عن القلب بلا شائبة واندفعت السيدات الفاضلات وبناتهن يقبلن زوجتي ويغنين لها ويداعبنها وانفعل جار طيب علي المعاش فأخرج مسدسه وأطلق منه عدة طلقات في الهواء طربا وابتهاجا بسعادة هذه الفتاة التي طالما تعاطف مع ظروفها من قبل‏.‏ وحمل إلينا الجيران الطعام والشراب والتورتة وشاركونا فيها‏..‏ ولم يغادرونا إلا عند منتصف الليل وهم يوصوننا بأن نبدأ حياتنا الزوجية بأداء ركعتي شكر لله عسي أن يبارك لنا في حياتنا وصحبتنا وسعادتنا‏.‏
وبدأنا حياتنا الزوجية معا وكل منا كالأرض العطشي إلي الحب والحنان والعطف من شريكه الجديد‏..‏ ووجد كل منا بغيته لدي الآخر‏..‏ فوجدت فيها الطيبة والعطف والاهتمام الزائد بي والقلق الشديد علي اذا تأخرت عن موعد عودتي إليها ولو لفترة يسيرة‏,‏ كما وجدت فيها أيضا ربة البيت الممتازة والطاهية الماهرة‏,‏ ووجدت هي في ماتقوله من انني أعطيتها كل ما افتقدته في حياتها من قبل من حنان وحب ورعاية‏,‏ وخلال حياتنا المشتركة معا بعت شقتي في المدينة الجديدة وحصلت علي شقة بالدور الأرضي بالإيجار الجديد أوسع من شقة زوجتي السابقة لكي يتسع مجال الحركة أمامها‏..‏ وكتبت عقد الإيجار باسمها‏,‏ وفتحت باذن من المالك بابا من المطبخ إلي الشارع ووضعت مدخله بحيث يصبح منزلقا ليسمح للكرسي المتحرك بالدخول والخروج‏,‏ واشتريت بما تبقي معي من ثمن الشقة سيارة مجهزة لزوجتي وكتبتها باسمها‏..‏ وأهديتها مقعدا متحركا جديدا‏,‏ وأعطيتها توكيلا عاما عني للتصرف في كل شيء‏..‏ وسعدت زوجتي بالمسكن الجديد وصنعت لنفسها سريعا صداقات جديدة مع جيراننا لأنها تدخل القلوب بيسر‏,‏ وتجد دائما من يحبونها ويتطوعون لخدمتها‏..‏ واستمرت صداقتها بالسيدة الفاضلة التي كتبت لك عنها‏..‏ ولم تمض شهور حتي كان جنين الحب يتحرك في احشاء زوجتي‏,‏ وعاشت زوجتي تجربة الحمل بمشاعر بهيجة‏..‏ واقترب موعد الولادة فحصلت من عملي علي اجازة ودخلت معها المستشفي ولازمتها فيه حتي وضعت مولودنا الأول‏,‏ ولقد فكرنا جديا في أن نسميه باسمك لولا أنه كان قد سبق مني النذر إلي الله سبحانه وتعالي أن أسميه اذا جاء ذكرا عبدالله‏..‏ واذا جاءت أنثي مريم ولقد أنعم الله علينا بعبد الله منذ‏20‏ يوما‏..‏ وكانت هذه هي المناسبة السعيدة التي أردنا أن نشركك معنا فيها ونذكرك بقصتنا معك‏..‏ ولقد عدنا من المستشفي إلي البيت حاملين مولودنا الصغير فتلقتنا الجارة الطيبة الجديدة التي تناديها زوجتي ياخالتي بالنصائح المجربة في رعاية الأطفال حديثي الولادة وعلمت زوجتي كيف تتعامل مع مولودها‏,‏ وكيف ترضعه‏,‏ وتغير ملابسه الخ‏..‏ وساعدتها في ذلك‏,‏ وحملته عنها كثيرا‏,‏ وعرضت عليها أن ترعاه في غيابها اذا اضطرت للخروج‏.‏
وها نحن نكتب إليك الآن بعد أكثر من عام من زواجنا وأقل من شهر من انجابنا طفلنا الصغير لنقول لك ان الاصرار الذي تحدثت عنه في ردك علي الرسالة الأولي يدفعنا إلي انجاح زواجنا واستمراره‏..‏ وان الحب الذي جمع بيننا يترسخ ويتعملق ويتعمق‏,‏ ولقد غير كل ذلك من نظرتنا السابقة للحياة‏..‏ فأذهب الله عنا الحزن‏..‏ والوحدة‏..‏ والمعاناة‏,‏ وأنعم علينا بالسعادة والعشرة الطيبة والاهتمام المتبادل‏..‏ وتغيرت نظرة زوجتي إلي كثير من الأشياء‏,‏ فلقد كانت بتأثير من بعض ما شهدته ولمسته من آلام في حياتها‏,‏ تتوجس من الدنيا وبعض الناس‏..‏ فأقنعتها بأن الخير في الدنيا إلي يوم يبعثون‏,‏ ودعوتها ذات مرة إلي التجربة العملية ونحن نتجول في الشارع وهي علي مقعدها المتحرك‏,‏ فأبلغتها أنني سأبتعد عنها وأدعها تسأل المارة أن يساعدوها في عبور الشارع أو في شراء شيء من المحلات أو أداء أي خدمة لها‏,‏ وابتعدت عنها بالفعل‏..‏ وجلست هي وحيدة في مقعدها ثم سألت أول عابر بها أن يعينها علي أمرها‏..‏ فاذا بكثيرين يتوقفون للحديث معها ويبشون في وجهها ويعرضون استعدادهم لأداء خدمة لها‏..‏ فرجعت إليها مبتسما وشكرت الجميع ودفعت المقعد في طريق العودة‏..‏
أما أنا فلقد انهمرت علي جوائز السماء التي تتحدث عنها منذ تزوجت هذه الإنسانة الطيبة الجميلة وهطل علي الرزق الحلال من أبواب السماء بلا حساب والحمد لله‏..‏ وسافرت في مهمة مندوبا من وزارة الري إلي أوغندا لمدة‏8‏ أيام لحل مشكلة فنية في بحيرة فيكتوريا‏,‏ وحصلت علي بدل سفر بالعملة الصعبة لأول مرة في حياتي‏,‏ كما حصلت منذ زواجي وحتي الآن علي مكافآت تفوق في مجموعها كل ما حصلت عليه من مكافآت طوال مدة خدمتي‏..‏ وحصلت لأول مرة في حياتي علي مكافآت بأرقام فلكية بالنسبة لدوائر الحكومة‏..‏ فإن كان لزوجتي الآن من مطلب فهو في أن تواصل الاهتمام بمشاكل المعاقين وتدعو الدولة للعناية بهم وبرعايتهم والاهتمام بتوفير العلاج الطبيعي والوظيفي لهم لكي يتكيفوا مع حياتهم‏,‏ وإلي الاهتمام بإنشاء مداخل منزلقة لهم في كل المباني العامة والعمارات كما هو الحال في الدول المتقدمة‏,‏ لكيلا أضطر كما تقول هي إلي حملها بمقعدها كلما ذهبنا لأداء عمل في احدي الجهات أو زيارة احدي الأسر‏..‏
وختاما‏..‏ فإني وزوجتي لانملك لك في النهاية إلا الشكر والدعاء‏..‏ ونرجو أن تتقبل منا هذا المصحف المرفق وهذه المسبحة المتواضعة رمزا للشكر والحب والعرفان‏..‏
وأنهي رسالتي إليك بهذا الدعاء الحبيب شكرا وامتنانا لله رب العالمين‏:‏ رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير‏..‏ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏..‏



ولكاتب هذه الرسالة أقول

مازلت أذكر حتي الآن ملامح هذه الفتاة الطيبة حين زارتني فوق مقعدها المتحرك مع بعض ذويها عقب نشر قصتها‏.‏ كما مازلت أذكر أيضا رسالتك التي تضمنت رغبتك في الارتباط بها وقصتك مع عاصفة الأحزان التي عصفت بحياتك قبلها‏.‏
فأية سعادة ان أعرف الآن ان الأقدار الرحيمة قد مسحت علي أحزانكما معا وجمعت بينكما في بيت هانيء صغير‏..‏ أثمر الحب فيه ثمرته المباركة ووهبكما الله من لدنه غلاما جميلا ؟
ان في العالم كما يقول الكاتب المسرحي الأمريكي تيرنس راتنجان‏,‏ ـ ظلاما كثيرا ولهذا فهو يرحب بكل شمعة ولو كانت صغيرة تبدد بعض ظلامه‏,‏ وهذه التطورات السعيدة في حياتكما هي شمعة صغيرة جديدة تصحح عن الحياة بعض أخطائها وتزيل بعض ظلامها‏.‏
ولقد تأملت قصتكما مليا فلم أجد لها عنوانا ابلغ من هذا العنوان‏:‏ حصاد الصبر‏!‏ أي جوائزه التي يعد الله سبحانه وتعالي بها الصابرين في الدنيا والآخرة ويبشرهم بالفوز بها‏.‏
ولقد صبر كل منكما علي آلامه وأحزانه الشخصية وظروفه الانسانية وتعلق أمله برحمة ربه في أن يذهب عنه الحزن ويؤنس وحشته ووحدته ويهبه السعادة والأمان فصدقت النية في الطلب‏.‏ وهيأت الأقدار كلا منكما لأن يكون لرفيقه الأمل‏..‏ والعزاء وفدية الأحزان‏,‏ فروي أرضه العطشي بماء الحب والعطف والحنان وارتوي من نبعه‏.‏
فإذا كنت قد ووجهت في البداية بتحفظ الأب وتشككه في نيتك تجاه فتاته فلكم يخطيء الانسان التقدير في كثير من الأحيان‏..‏ ولكم تفسد علينا الظنون والهواجس أحيانا ماكنا جديرين بأن نسعد به وتسكن أرواحنا إليه لو كنا قد غلبنا لدينا الايمان بخيرية الحياة وحسن الظن بالآخرين علي التوجس منهم والتشكك في نياتهم‏.‏ غير أن فتاتك الطيبة قد حسمت الأمر علي أية حال بترجيحها لحسن الظن فيك علي سوئه‏.‏ ولم يخذلها حسها الصادق فيمن توسمت فيه الخير والعطاء والحمد لله‏.‏ ولكم كان مثيرا للتأمل‏..‏ ان تأتي الفرحة الصادقة والابتهاج الغامر بسعادة قلبين جريحين من جانب الجيران والأصدقاء وليس من الأصل وذوي القربي‏.‏ لكن كل ذلك قد مضي الي سبيله واصبح من الذكريات‏,‏ ولعله قد اصبح أيضا من تحديات السعادة التي تشحذ رغبتكما المشتركة دانما في الحفاظ عليها والدفاع عنها ضد ظنون المستريبين‏..‏
والصوفية يقولون لنا في بعض كلامهم الجميل ان المحبة هي الموافقة أي الطاعة له فيما أمر‏,‏ والانتهاء عما زجر‏,‏ والرضا بما حكم وقدر‏.‏ ولقد رضي كل منكما بما قدر له ربه وحكم‏..‏ فكان حقا علي السماء أن تستجيب لدعائه بأن ينزل إليه ربه من الخير ماهو فقير إليه‏..‏ وهذا الدعاء المفضل لديك بالمناسبة هو من دعاء سيدنا موسي عليه السلام وقد ورد في الآية‏24‏ من سورة القصص‏,‏ في سياق قصته حين فر من مصر عقب قتله لمن كان يقتتل مع أحد أبناء قومه وتوجه الي مدين خائفا يترقب وداعيا الله ان يهديه سواء السبيل‏,‏ فرأي عند ماء مدين زحاما غفيرا وامرأتين تتراجعان عنه يائستين من السقيا‏,‏ فسقي لهما ثم أوي الي الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير أي اني في حاجة الي ماتسوقه إلي من خير ورزق فكانت هذه الضراعة بداية لما أنزل الله إليه من خير عميم بدأ بزواجه من إحدي الفتاتين‏.‏ وتوج بنزول الرسالة عليه في طريق عودته لمصر حين آنسي في الطريق نارا ناحية جبل الطور فتوجه إليها ليأتي من عندها بخبر عن الطريق أو جذوة منها يستدفيء بهأ أهله‏..‏ فاذا به يسمع نداء علويا يقول له‏:‏ إني أنا الله رب العالمين
فهنيئا لكما ماأنعم به عليكما ربكما من خير حميم‏..‏ وبشري لكما باصراركما‏..‏ المشترل علي نيل السعادة والحفاظ عليها وعدم والفريط فيها ذلك انه بقوة الرغبة في السعادة وبالفهم الصحيح لحقائق الحياة ومايستحق منها أن يتمسك به الإنسان ويسعي إليه ومالا يستحق ذلك‏,‏ يكون عمق السعادة والهناء في حياته‏..‏ ويكون الأمل والعزاء عن كل الأحزان‏!‏




عذرا اذا كــان الموضوع في غيـر مكانه الصحيح .