اجتياز جبال الألب
ان العمل العظيم الذي حققه هنيبعل باجتياز جبال الألب أدهش العالم، وأصبح في أذهان رجال الحرب من المعجزات.
يقول الكولونيل دودج أنه حاول أن يدرس هذه المعجزة ليطّلع على تفاصيلها، فأحصى ثلاثماية وخمسين كتاباً وضعت كلها لدرس الموضوع نفسه، ولا ريب في أن هناك كتباً عديدة لم يطلّع عليها هذا الكولونيل لأن جيرار والتر يقول، في كتابه القيّم : " تدمير قرطاجة " ان العلماء والمؤرخين والاختصاصيين في الشؤون العسكرية، وضعوا أكثر من خمسماية دراسة لتحديد الطرق التي اجتازها هنيبعل. ولكنهم لم يتفقوا على رأي. وما تزال مناظراتهم مستمرة حول هذا الموضوع منذ أحد وعشرين قرناً، دون أن يصلوا الى حلّ نهائي، أو أن يجمعوا على أمر أكيد. وفي الآونة الأخيرة – تموز سنة 1959 – عمد أحدهم، وهو انكليزي، الى اجتياز جبال الألب برفقة فيل، ليختبر المشقات التي تغلب عليها القائد القرطاجي الجبار.
أما المؤرخان العسكريان كروماير وفايث فقد أكدّا في كتابهما : " Schlachtenatlas " ان هنيبعل اختار احدى الطرق الخمس التالية : جبل سنيس – سان برنار الصغير – سان برنار الكبير، جبل جنيفر، ممر أرجنتيير. ويمكن أن تضاف طريق سادسة هي ممر ترافرسيت، وهذا ما يذهب اليه المؤرخ سسيل تور. ولكن العدد الأكبر من المؤرخين يميل الى الاعتقاد ان الطريق الحقيقة التي اختارها هنيبعل هي أحد الممرات الثلاثة الأخيرة من الطرق الست المذكورة.
لا يسعنا الاّ أن نشير، في هذه المناسبة، الى أن المؤرخين القدامى الذين اشتهروا بنقمتهم على هنيبعل، وبتشويه الحقائق للحطّ من قدره، اجمعوا على اظهار اعجابهم، دون تحفظ، بعملية اجتياز الألب، فوصفوا باسهاب الصعوبات الكبيرة التي ذللّها القائد القرطاجي بحزمه وعزمه، والعواصف الثلجية الهائلة التي جابهها وانتصر عليها، وحوادث انهيار جبال من الجليد على جنوده دون أن تؤخره يوماً واحداً عن المسير، وما الى ذلك من غارات القبائل المتوحشة، والتيه في الطرق المجهولة، والتعرض للسقوط في المهاوي، من جراء السير على السفوح الشديدة الانحدار.
لقد حاول بعض القادة، في العصر الجديث، وفي مقدمتهم نابليون بونابرت، أن يقللوا من أهمية اجتياز الألب، فأثبتوا أن القبائل الغولية كانت تقوم بهذا العمل كلما زحفت لغزو الأقطار الرومانية. ولكن الحقيقة هي أن هذه القبائل كانت تستسهل اجتياز الجبال لأسباب كثيرة، منها ان رجالها جبليون، وانهم خفيفو الأحمال يسيرون دون نظام، بينما كان هنيبعل يقود جيشاً منظماً، ويجر وراءه أحمالاً ثقيلة من الأسلحة والذخائر والمؤن، ناهيك بعشرات الفيلة التي كان يدفعها دفعاً الى القمم، وهي التي تتعثر في أخاديد السهول...
لقد أثبتت التجارب الحديثة ( تجارب الروس في السنة 1799 ، وتجارب الحلافاء في السنة 1916 ) ان اجتياز الألب يكاد يكون من الأمور المتعذرة على الجيوش الكبيرة، رغم جميع الوسائل الفنية المتوفرة اليوم في العالم.
والأمر الذي يثير الدهشة والاعجاب لا يقتصر على أن هنيبعل اجتاز الألب، بل يتجاوز ذلك الى أنه اجتازها بسرعة، واستطاع في أثناء قيامه بهذا العمل الفذّ أن يحافط على نظام جيشه، وأن يقود رجاله الى الهدف الأخير بقوة ودقة عجيبتين.
لقد بالغ الأقدمون في قدر الخسائر التي حلّت بالجيش القرطاجي، وذهبوا الى أنها بلغت عشرات الألوف من الرجال. ولكن الحقيقة هي دون ما يقولون. لا ريب في أن هنيبعل خسر عدداً كبيراً من جنوده الذين أرهقتهم رداءة الطقس، وبطشت بهم قبائل الجبليين المتوحشين، ولكن هذا لا يمنع المؤرخ النزيه من التفكير طويلاً بعظمة هنيبعل الذي استطاع أن يجرّ الفيلة الى قمم الجبال، ثمّ أن ينحدر بها الى رحاب السهول الايطالية. ان الذين قدّر لهم، في الحرب العالمية الأخيرة، أن يقودوا الدبابات في جبال الابنين – وهي منخفضة وسهلة الاجتياز بالنسبة الى الألب – هم وحدهم لمسوا عظمة هنيبعل حين فكروا، معجبين، بأن القائد القرطاجي قاد فيلته، ليس في هضاب الابنين، حيث تعثرت دباباتهم، بل في أعالي الألب حيث تزلق النسور !.
بعد أن غادر هنيبعل ضفة نهر الرون، سار صوب جبال الألب مدة أربعة أيام، فوصل في 30 آب الى نقطة مصّب نهر الايزير في نهر الرون. ( اننا نتبنّى هنا نظرية المؤرخ الفرنسي كميل جوليان في كتابه " تاريخ غاليا " لأنه يصف االأمكنة وصف خبير مدقّق ). وفي تلك البقعة من الأرض التي تكوّن شبه جزيرة بين النهرين، استراح الجيش القرطاجي يومين وليلتين، ثم استأنف سيره في جوار ضفة الايزير اليسرى. وفي عشرة أيام بلغ قمة مونمليان واجتازها، فوصل الى المنعطف الذي تبدأ فيه طريق جبال الألب الحقيقية. ومن المرجّح أن هنيبعل اختار طريق جبل سنيس لأنها كانت تؤدي رأساً الى بلاد حلفائه البوئيين. ولما وصل الى أبواب جبال الموريان، وهي جزء من الألب، اصطدم بأول عقبة كبيرة اذ وجد سكان تلك المنطقة يسدون الممرات بقواتهم المسلحة ويحتلون القمم، وهم من قبائل الألّوبروج الشديدة المراس، تلك القبائل التي حاول التحرش بالجيش القرطاجي في وادي نهر الرون، ولكنها خشيت بطش هنيبعل في السهول، فسبقته الى الجبال حيث يتسنى لها أن تهاجم القرطاجيين في الممرات الضيقة، وأن تشن هجماتها على أطراف الجيش الممتّد في الأودية وعلى السفوح، فتعمل فيه سلباً ونهباً وتقتيلاً...
في ذلك المأزق الحرج، لم يتكّل هنيبعل على ادلائه البوئيين الذين وعدوه بارشاد الجيش الى طرق سهلة المسالك، بعيدة عن كل خطر، بل عمد الى وسائله الخاصة وما فيها من أساليب المرونة المجدية والدهاء المتفوّق، فأمر جيشه بالتوقف عن المسير، ثم أرسل الى الألّوبروج المتربصين في حصونهم الطبيعية وفداً من الغوليين. كانت مهمة هذا الوفد الظاهرة مفاوضة الألّوبروج والتفاهم معهم للوصول الى اتفاق سلمي. أما مهمته السرية فهي درس أحوال تلك القبائل المتوحشة وعاداتها في الحرب والسلم. فنجح الوفد في مهمته الثانية، وعاد يقول لهنيبعل أن الألوبروج مصممون على القتال مهما كانت الظروف، ولكنهم لا يقاتلون الاّ نهاراً، فاذا جن الليل، انسحبوا من حصونهم، وذهبوا الى قراهم ودساكرهم ليعودوا في الصباح الباكر الى مراكزهم متأهبين للقتال.
اكتفى هنيبعل بهذه المعلومات ليضع خطته. ولما أقبل الليل، أمر باضرام النيران في معسكره ليعتقد الألوّبروج انه لن يتحرك من مكانه قبل الصباح، ولما انطلت الحيلة على تلك القبائل وانسحبت من مراكزها الى قراها، أصدر أمره بمواصلة السير، فاجتاز الأمكنة الخطرة تحت جنح الظلام، دون أن يعترضه أحد. وبزغ فجر اليوم التالي، فعاد الألوبروج وحاولوا البطش بمؤخرة الجيش القرطاجي، ولكن هنيبعل كان مستعداً لمقابلتهم، فضربهم ضربة قاسية، فانكفأوا خاسرين !.
بعد تلك الحادثة، واصل الجيش القرطاجي سيره مدة ثلاثة أيام دون أن يعترضه أحد. وفي اليوم الرابع، لما وصل الى منعطف " سان ميشيل " وأصبح يواجه القمم العليا، رأى هنيبعل أناساً يسيرون صوبه، وفي أيديهم أغصان الأشجار، وعلى رؤوسهم أكاليل من الأزهار، فعلم انهم شيوخ القبيلة المقيمة في تلك المنطقة، وأنهم أتوا للاعراب عن خضوعهم ملتمسين الرفق بهم، ثم انهم تعهدوا بأن يقدموا للقرطاجيين رهائن من أبنائهم وأدلاء أمناء من رجالهم المجربين.
استمع هنيبعل الى أقوال أولئك " الخاضعين المسالمين " بكل انتباه، وشكرهم على معروفهم، ولكنه قرأ في عيونهم سطوراً واضحة من المكر والرياء، فلم يواصل سيره الاّ بعد أن وضع في مؤخرة جيشه فرقة من المشاة الأشداء الذين تمرسوا في القتال، وأصبحوا يعرفون كيف يقابلون الغدر بالبسالة والثبات. وفي صباح اليوم التالي اثبتت الحوادث أن هنيبعل كان على صواب في حذره، وفي التدابير الحازمة التي اتخذها، لأن أولئك " الخاضعين المسالمين " الذين أتوه يحملون الأغصان والأزهار، ويعرضون عليه الرهائن والأدلاء، ويلتمسون الرفق والرحمة، انقلبوا ذئاباً كاسرة في ممرات " اسيّون " الضيقة الصعبة، وأخذوا يشنون على مؤخرة الجيش القرطاجي غارات ضارية، حتى اضطر هنيبعل أن يقابلهم بالقوة، وأن يخوض ضدهم معركة دامية اسفرت عن هزيمتهم. بيد أن فلولهم ظلت ترافق القرطاجيين من بعيد، سالكة طرق السفوح، لتستطيع أن تدحرج على الجنود الصخور الكبيرة كلما سنحت الفرصة، ولتبطش بكل من يتأخر أو يسقط عاجزاً عن مواصلة السير.
في ذلك المأزق الرهيب، تسلم هنيبعل نفسه قيادة المؤخرة فصعد على رأس فرقة من رجاله الأشداء، الى السفح المطل على الوادي الذي كان يعبره الجيش، وهناك اسند ظهره الى الصخور العالية متأهباً للبطش بالمعتدين، فاضطر هؤلاء أن يتراجعوا خائفين، حتى اجتاز الممر آخر جندي قرطاجي.
يقول بوليب أن هنيبعل خسر في ذلك الممر عدداً كبيراً من رجاله وخيوله وأبقاره، وقد يكون هذا القول على جانب من الصحة، ولكن الجيش القرطاجي اجتاز وادي اسيّون فاجترح معجزة ما تزال حتى اليوم تثير الدهشة والاعجاب في الأوساط العسكرية.
بعد ممر اسيّون راى هنيبعل قمة جبل سنيس الشامخة، كأنها تناطح السحاب وتتحدّى كل مغامر يحاول أن يتسلقها. وكان ذلك في صباح اليوم العشرين من أيلول، فاستراح الجيش حتى الظهر، ثم استأنف سيره فبلغ القمة قبل الغروب. ورأى هنيبعل رجاله ينتشرون في سهل صغير يطل غرباً على الجبال المتدرجة بأوديتها المظلمة الى نهر الرون، وشرقاً على السهول الايطالية المترامية الأطراف صوب الجنوب.
لقد شهد ذلك المساء اجتماعاً لم ير الجيش مثله منذ أسابيع، اذ التقى في مكان واحد أولئك الرجال الذين كانوا يسيرون صفوفاً طويلة في الأودية الضيقة والممرات الصعبة، تكتنفهم الأخطار من كل ناحية. فأخذوا يتحدثون مرحين مستبشرين، فمزّق لغطهم وضجيجهم سكون الليل على تلك القمة التي ما تعودت غير الصمت والهدوء الواجم. ولكن تلك الضجة لم تدم طويلاً، لأن الجميع ما لبثوا أن تمددوا على الأرض وغرقوا في نوم عميق، بعد تلك المشقات التي أرهقتهم مدة أيام متوالية، فاحترم هنيبعل نومهم وتركهم يستريحون كل الليل.
في صباح اليوم التالي وقعت عين هنيبعل على مشهد فريد لم يكن ينتظره أحد. فالمئات من الرجال الذين حسبوا مفقودين لم يكونوا الاّ متأخرين، أقعدهم التعب، أو شاردين تاهوا في الظلام، فأخذوا يتقاطرون الى المعسكر زرافات ووحداناً، وشرع الجنود يستقبلون كل واحد منهم أو كل جماعة بالتهليل والهتاف. ولم يعد في ذلك الصباح عدد كبير من الرجال وحسب، بل تبعهم عدد لا يقل عنهم من الخيول والبغال والأبقار، وكانت هذه الحيوانات قد اطرّحت أحمالها وشردت في الأودية والسفوح، ثم قادتها غريزتها الى المعسكر فجاءت كأنها مع الجيش على موعد.
كان ذلك اليوم صافي الجو، هاديء الهواء، فاستطاع هنيبعل أن يرى من بعيد خضرة السهول الايطالية الممتدة الى أقاصي الأفق الأغبر بمروجها وحقولها ومراعيها، وأحس بالغبطة تغمر نفسه، وتملأ قلبه الكبير، ولكنه قرأ في وجوه رجاله شيئاً من القلق، وأدرك أن صدورهم تعج بالهواجس والمخاوف ولا سيما بعد أن أرهقهم السفر الطويل، وتجلت في حركاتهم أدلة العياء، فقرر أن ينعش فيهم الأمل، وأن يوقظ هممهم الراقدة، وأن يشدد ما تراخى من عزائمهم ليستعيدوا ما عهده فيهم من البسالة والاقدام والنشاط.
كان ذلك العبقري يعلم أن الفصاحة والبلاغة، في مثل ذلك الموقف، لا تثمران، وان الكلام المنمّق والبيان لا يتركان في نفوس أولئك الرجال المرتبكين أي أثر، لذلك صفّهم في المكان المشرف على ايطاليا، وأشار بيده الى السهول قائلاً : " انظروا !..."
وبعد سكوت لم يدم الاّ دقائق معدودة، استطرد هنيبعل قائلاً : " أيها الجنود، أنتم هنا جائعون، خائرو القوى، ولكنكم هناك ستدخلون مدناً عامرة تغص بالكنوز والتحف وأصناف الطعام والشراب !.. انكم هنا تفترشون التراب وتتوسدون الحجارة والصخور، بينما تنتظركم هناك الأسرّة الوثيرة في الخلوات الدافئة الممتلئة بأجمل الأثاث وأفخر الرياش..."
ومدّ يده من جديد مشيراً الى الأفق وهو يقول : " كل هذا ينتظركم هناك...كل هذا سيكون لكم...وهذه الطريق مفتوجة أمامكم، ان كنتم أبطالاً !"
لم يكن أولئك الجنود، في تلك الساعة، يؤلفون ذلك الجيش الجميل المظهر اللامع الأسلحة، النظيم الصفوف الذي غادر منذ أشهر مدينة قرطجنة، بل كانوا جماعات تجرّ أثقالاً، وترتدي اسمالاً، كأنها هائمة على وجهها، أو شاردة على غير هدى، وقد طاردتها الكوارث والنكبات، وتلقفتها العواصف والأعاصير، فأشبعتها تعباً وارهاقاً وتعذيباً قبل أن تبصقها على تلك القمة الشامخة، قمة جبل سنيس.
لا ريب في أن الجنود، حين قال لهم هنيبعل : " أنظروا ! " لم يروا سوى الأفق الأغبر، وخضرة السهول المبهمة، الضائعة في البعد الشاسع، ولكن هنيبعل تكلم، فألقت كلماته نوراً جديداً على الوهاد والبطاح والحقول، وخيّل الى الجنود انهم يرون المدن العامرة، والكنوز المتراكمة، والرياض المثقلة بالخيرات. فاشتدّت عزائمهم المتراخية، وهبوا صفاً واحداً متأهبين للقتال.
وكان هنيبعل يتوقع هذه النتيجة لأنه عاشر الجنود طويلاً، وخالطهم منذ حداثته، فخبرهم خبرة واسعة، وتفّهم أخلاقهم وذهنيتهم وميولهم، وأصبح واثقاً بقدرته على توجيههم حسبما تقضي الظروف. وهذا ما شرحه المؤرخ اللاتيني ديون كاسيوس باسهاب، مصوراً عبقرية هنيبعل تصويراً صادقاً في كتاب لم يبق منه سوى صفحات متفرقة.
في صباح اليوم التالي أخذ الجيش القرطاجي يهبط سفوح الألب الشرقية، فكان الانحدار بين الصخور، والمهاوي، ومجاري السيول، أصعب من التصعيد في الجهة الغربية، ولا سيما ان العواصف الشديدة أخذت تهب من الشمال صافعة الجنود صفعات قاسية متوالية، وكان ذلك في الأسبوع الأخير من أيلول.
يقول بوليب ان هنيبعل فقد في ذلك الهبوط عدداً من الرجال يفوق عدد الذين هلكوا في أثناء التصعيد من الجهة الغربية، ولكنه لا يعطي أي رقم في هذا الصدد. الاّ أننا نعلم أن هنيبعل وصل الى أول واد ايطالي، وهو وادي نوفاليز، على رأس ستة وعشرين ألف مقاتل، وذلك في اليوم السادس والعشرين من أيلول.
لقد استمرت عملية اجتياز جبال الألب خمسة عشر يوماً.
وفي هذا الصدد يقول الشاعر الايطالي " جوفينال " معبراً عن شعور أبناء عصره، في ما يتعلق بهذا العمل العظيم : " سار هنيبعل الى القتال، فأوقفت الطبيعة ضده جبال الألب والثلوج المتراكمة، ولكنه شقّ الصخور وحطّم الجبال، فزالت كأنها ذابت في الخلّ ".
ولكن الشاعر المتعصّب لوطنه، الناقم على الفاتح الكنعاني، ما لبث أن صاح بعد هذا الاعتراف الصريح : " اذهب، أيها المجنون، اركض بين منحدرات الألب لتدهش طلاب المدارس، ولتصبح بينهم موضوعاً لالقاء الخطب الحماسية ! "
التمهيد لمعركة كان
كان القادة الرومان منقسمين فئتين، فئة ترى مع فابيوس، ان المعارك الكبيرة لا تخدم الاّ مصلحة هنيبعل، لأنها تمكّنه من سحق القوات الرومانية بصورة تدريجية، ومن فصل روما عن حلفائها تمهيداً للقضاء عليها عسكرياً. وكانت هذه الفئة تقول بوجوب انتهاج حرب المناوشات لارهاق العدو حتى يصبح الانتصار عليه ممكناً. أما الفئة الثانية فكانت تدعو الى منازلة هنيبعل وسحقه، لانقاذ ايطاليا من شرّه، لأن أعمال التخريب التي كان يقوم بها الجيش القرطاجي جعلت حلفاء روما يتذمرون ويطلبون الخلاص كيفما كان الأمر. وحجة هذه الفئة أن روما كانت تستطيع أن ترسل الى الميدان جيشاً ضخماً يفوق جيش هنيبعل باثني عشر ضعفاً، فهل يستطيع الجندي القرطاجي أن يقهر اثني عشر من جنود روما ؟
حاولت الفئة الأولى تعزيز رأيها بأن هنيبعل قائد كبير واسع الحيلة، مدهش الأساليب. فأجابت الفئة الثانية بأن لحيلة الساحر حدوداً، وبأن أعمال التخريب التي يقوم بها القرطاجيون لا يجوز أن تستمر لأنها تهدد روما بالاختناق، وبخسارة جميع حلفائها الايطاليين.
كانت الفئة الأولى مؤلفة من الارستقراطيين الملتفين حول فابيوس، والقائلين بأن الفكر يجب أن ينتصر على القوة المادية. بينما كانت الفئة الثانية مرتكزة على عامة الشعب، تؤمن بالقوة المادية وتقول بأن هذه القوة تسحق الذكاء مهما كان جاداً متفوّقاً.
وكان مجال الانتخابات القنصلية مفتوحاً لاصطراع الفئتين، فاقترح القنصلان سرفيليوس وريغولوس أن يوفدا الى روما من ينوب عنهما في خوض المعركة الانتخابية، لأنهما رأيا أن ابتعادهما عن الجيش في تلك الظروف الحرجة يشكل خطراً كبيراً على سلامة البلاد. فرفض مجلس الشيوخ اقتراحهما وطلب منهما أن يختارا ديكتاتوراً حسب الأصول المتبعة. فعيّنا ل. فيتوريوس فيلون ولكن كتب التنبؤ استنكرت هذا التعيين لاعتبرات دينية، فاضطر الديكتاتتور أن يستقيل، وعيّن مجلس الشيوخ، للنيابة عن القنصلين كلاّ من ج. كلوديوس سنطو، و ب. كورنيليوس اسينا، وهما من حزب الأعيان، فكان هذا التعيين سبباً لانطلاق عاصفة احتجاج صاخبة، لأن الشعبيين اتهموا مجلس الشيوخ بتدبير الدسائس لفرض سيطرته على الانتخابات. وتمادى الخطباء في هجومهم العنيف، حتى أن هيرينيوس ألقى خطبة شديدة اللهجة قال فيها ان مجلس الشيوخ ارتكب تزويراً انتخابياً، وتعمّد اطالة الحرب لخدمة مصالح الطبقة الحاكمة. وقال ان مينوسيوس قد أثبت بصورة لا يرقى اليها الشك ان الانتصار على هنيبعل ممكناً، اذا استخدمت، في هذا السبيل، القوات الكافية، وان روما لم تنزل بعد الى الميدان جميع امكاناتها الحربية. وختم خطبته مذكّراً بأن الشريعة تقضي بأن يكون أحد القنصلين من أبناء الشعب، ثم طالب بقنصل حازم يستطيع أن يقود الحرب الى نهايتها بسرعة.
قوبلت هذه الخطبة بحماسة شعبية كبيرة، ثم أنزل حزب الاعيان الى المعركة خمسة مرشحين : ثلاثة نبلاء واثنين من أبناء الشعب. أما الشعبيون فانتخبوا فارون بالاجماع، فكانت النتيجة أن فاز هذا الأخير وحده، ولم ينل أحد من مرشحي حزب الأعيان الأصوات الكافية للحصول على القنصلية، فأصبح من حق فارون، بعد أن صار وحده قنصلاً، أن يشرف على انتخابات زميله، مما جعل حزب الشعب سيد الموقف. ولكن مجلس الشيوخ لم يعتبر نفسه مغلوباً، لأن الشريعة تقضي بأن يكون القنصل الثاني من الأعيان. فجرت مفاوضات طويلة انتهت باختيار اميليوس باولوس.
لم تكن سمعة هذا الأخير نظيفة، لأنه اتهّم فيما مضى باختلاس بعض الغنائم الحربية، لذلك تردّد الشيوخ طويلاً قبل أن يعلنوا ترشيحه، ثم أقدموا على ذلك الترشيح لأنهم كانوا في أشد الحاجة الى رجل كباولوس، شديد الشكيمة، بعيد النظر، يستطيع أن يلجم حماسة فارون، وأن ينقذ روما من كارثة عسكرية جديدة.
هكذا انتهت الانتخابات بانتصار الشعبين، وأصبح من المؤكد أن تتخّذ الحرب طابعاً هجومياً لسحق هنيبعل في معركة كبيرة حاسمة، فأخذت روما تستعد وتحشد قواها لليوم العصيب. جنّدت ثماني فرق في جيش واحد، بينما كان كل جيش من جيوشها يتألف من أربع فرق. ويخبرنا بوليب انها فضّلت ان تؤلف جيشاً واحداً كبيراً يقوده قنصلان، بدلاً من أن تؤلف جيشين يقود كلاّ منهما قنصل. أما الفرق المذكورة فكانت تضم كل واحدة منها خمسة آلاف مقاتل من المشاة، وثلاثماية فارس. بينما كانت الفرقة، قبل ذلك الحين، تتألف من أربعة آلاف من المشاة ومئتي فارس. وفي الوقت نفسه، جنّد حلفاء روما ثماني فرق كالفرق الرومانية، فأصبح الجيش كله يضم 200 ر89 مقاتل، منهم 82 ألفاً من المشاة و 7200 فارس.
كان مجلس الشيوخ، من قبل، يرفض هدايا الحلفاء وهبات الأصدقاء، مهما كان نوعها، فتنزّل عن ذلك التقليد ليستطيع أن يمّد الجيش الضخم بالمال والمؤن، وقبل من هيارون، سيد سرقسطة، نصف مليون كيل من القمح والشعير، وتمثالاً من الذهب يمثل الانتصار يبلغ مئة وزنة، وفرقة من الرماة، كما قبل من مدينة نابولي وعاءً من الذهب.
كانت تلك الاستعدادات تجري في جو من القلق والتوتر والاضطرات المتزايد. فقد طلب الى الجنود أن يقسموا يمين الأمانة للكردوس الذي ينتمون اليه، بالاضافة الى اليمين التي كانوا يقسمونها عادة لتكريس انخراطهم في الجيش. وأصبح القسم الجديد رسمياً تجري مراسمه أمام كبار القادة.
استغرقت تلك الاستعدادات ستة أشهر دون أن يبدي هنيبعل أية حركة، مما جعل الرومان يظنون أن الساحر قد استهلك جميع امكاناته وأصبح عاجزاً عن منازلة روما في معركة كبيرة، فأخذ فارون يقول أن ساعة القرطاجيين قد دنت وانه لا يحتاج الاّ الى يوم واحد ليرى هنيبعل ويسحقه سحقاً.
وفي تلك الأثناء تحرك الساحر، فخرج من جيرونيوم واستولى على قلعة كان، وهي قلعة قديمة متهدمة، كان الرومان يضعون فيها المؤن، فما كاد هذا النبأ يصل الى روما حتى اتخذ منه حزب فارون ذريعة للتهويل، فشرع الخطباء يصيحون أن الشعب الروماني سيموت جوعاً ان لم يهبّ الى القتال، لأن القرطاجيين استولوا على أهراء روما، وان قحة هنيبعل ليست من الأمور التي يجوز الأغضاء عنها، لئلا يتبادر الى الأذهان ان روما خائفة. وكان فارون يردد : " يجب أن يعلم هنيبعل أن رومان تلك السنة ليسوا كرومان السنتين الماضيتين، وان الجيش القرطاجي سينهار ويزول من الوجود بقوة السلاح ".
وانتقلت عدوى الحماسة الى مجلس الشيوخ نفسه، فأعلن أن روما ستنازل هنيبعل قريباً في معركة كبيرة حاسمة. وكان لذلك القرار فعل السحر في النفوس، فاجتاحت روما موجة من الحمية الوطنية، وأراد الأعيان أن يثبتوا للشعب انهم ليسوا أقل منه غيرة على الوطن، فانخرطوا في الجيش وطلبوا أن يسيروا في مقدمة الصفوف. فشوهد أبناء الأسر الكبيرة، أسر فابيوس وكلوديوس، وكايسيليوس، وكورنيليوس، يمشون مع جنود الشعب جنباً الى جنب. وتجنّد كذلك كهول وشيوخ يجللهم الوقار، وقناصل سابقون، وموظفون كبار استقالوا من مناصبهم، ومئة من أعضاء مجلس الشيوخ، فمشوا الى القتال جنوداً لا يمتاز أحدهم على أي جندي آخر.
وكانت كتائب الفرسان تضم أبناء أوسع الأسر الرومانية جاهاً وثراء، فخيل الى الجميع أن أعجوبة قد حدثت، فجعلت من طبقات الشعب الروماني صفاً واحداً متماسك العناصر في وجه العدو القرطاجي.
غادر القنصلان الجديدان روما للالتحاق بالجيش، وكل منهما يفكر بمعاكسة الآخر. فقد أكّد فارون، في مناسبات كثيرة، ان الحرب ستنتهي حين يرى هو العدو، لأنه سيسحق هنيبعل سحقاً. أما باولوس فقد صرح بكل حذر أنه سيعمل حسب الظروف.
يخبرنا بلوطرخوس ان الشيخ فابيوس زار باولوس في تلك الأثناء، وحذّره من هوس فارون قائلاً : " عليك أنت ان تدافع عن روما ضد طيش فارون، أكثر مما ستدافع عنها ضد هنيبعل ! " فأجاب باولوس : " اذا كان الأمر متعلقاً بي فاني أفضّل أن أسقط تحت سهام الأعداء على أن أقع بين أيدي أبناء وطني ".
ولكن هذا القول لا يعني أن باولوس كان انهزامياً متخاذلاً، فهو قد خطب في الجنود مؤكداً لهم ان النصر سيكون حليفهم، وان هنيبعل أعجز من أن يقهرهم مهما كان عبقرياً واسع الحيلة. وقال ان للنكبات السابقة أسباباً لم تعد موجودة وان يوم الانتصار أصبح قريباً.
وصل القنصلان بجيشهما الى جوار كان، وعسكرا على مسافة عشرة كيلومترات من معسكر هنيبعل بالقرب من نهر أوفيدوس. وكان السهل الممتّد بين الجيشين فسيحاً ملائماً لحركات الفرسان وانتقال القوات الخفيفة بسرعة.
يقول بلوطرخوس ان اميليوس باولوس أنذر زميله فارون بأن سهل كان غير موافق لخوض المعركة الحاسمة، لأن فيه مجالاً واسعاً لفرسان هنيبعل النوميديين الذين لا يقو ى فرسان روما على مجابهتهم، ولكن فارون أصرّ على الاعتقاد انه يستطيع سحق القرطاجيين لأن الجيش الروماني يفوقهم عدداً. ولما كان هنيبعل، بانتقاله من جيرونيوم الى كان، قد ابتعد عن روما، تبادر الى أذهان كثيرين من الرومان انه يريد الفرار، فظنوا أن الفرصة سانحة للقضاء عليه لاعتقادهم انه أصبح عاجزاً عن القتال.
أما الساحر فجمع ضباطه وعدداً كبيراً من جنوده في مكان مرتفع يشرف على السهل وقال لهم : " أيمكن أن نجد أفضل من هذا المكان للقضاء على جيش روما ؟ " فوافق الجميع على أن المكان هو أفضل ما يوافق الفرسان للقيام بحركاتهم الواسعة. فاستطرد هنيبعل قائلاً : " يجب عليكم أن تشكروا الآلهة ثم قائدكم الذي جلب الرومان الى هذا المكان، فالمعركة الحاسمة التي ستضع ايطاليا كلها تحت رحمتكم أصبحت قريبة، ولم يبق لروما أي مفر من خوضها ".
يدل هذا القول على أن الساحر كان واثقاً كل الثقة بالنصر، رغم قلة عدد جنوده – وهم خمسون ألفاً – بالنظر الى ضخامة الجيش الروماني، مما يثبت انه كان يتكل على عبقريته وخططه الحربية أكثر من اتكاله على القوة العددية، وقد أيقن أن المعركة ناشبة لا محالة لما رأى القوات الرومانية محتشدة، وفي مقدمتها أبناء الأشراف، وأعضاء مجلس الشيوخ وعشرات من أكبر الشخصيات الرومانية.
كان القنصلان يقودان جيشهما مناوبة، فلما تسلم اميليوس باولوس القيادة أدرك حراجة الموقف، فنقل ثلث الجيش الى ضفة الاوفيدوس اليمنى، حيث أخذ يهدد رجال هنيبعل الذين كانوا يجمعون الاعشاب للخيول والمواشي، فنقل الساحر جيشه الى الضفة اليسرى وأخذ يستعد للقتال متحدياً. ولكن باولوس لم يتحرك من مكانه، لعلمه ان القرطاجيين لا يستطيعون البقاء طويلاً في مركزهم، لافتقارهم فيه الى المؤن. وكان هنيبعل أنبه وأدهى من أن يهاجم الرومان وهم محصنون في مراكزهم المنيعة، فأخذ يحاول اخراجهم من تلك المراكز وارغامهم على النزول الى الميدان. ولبلوغ هذه الغاية، أرسل فرسانه النوميديين يطاردون الرومان ويلحقون بهم الى الخط الأول من خطوط الدفاع المبنية حول المعسكر الروماني على الضفة اليسرى. فأثار هذا الاستفزاز جنود روما حتى كادوا يخرجون من استحكاماتهم ليؤدبوا " القرطاجي الوقح " غير مكترثين بأوامر القيادة. وكان أشدهم غضباً ونقمة قنصلهم الملتهب حماسة فارون.
أما سكان روما فقد أخذ توتر أعصابهم يتفاقم ساعة بعد ساعة، وبقدر ما كانت أنباء الجبهة تصل اليهم منذرة بقرب اليوم الرهيب، كانت المدينة بأسرها تهتز خوفاً، كأن عاصفة من الهول قد هبت عليها.
لقد استطاعت تلك الأيام العصيبة أن ترفع القناع عن نفسية الرومان الحقيقة، فتبين انهم يسترون، وراء مظاهر الثقة بالنفس وشدة البأس، رعباً عميقاً قاتلاً، رماه الساحر في قلوبهم، حتى حسبوا أن هنيبعل يملك قوة خارقة تفوق قوى الطبيعة، وتعجز عن مقاومتها وسائل البشر. لذلك أخذوا يبحثون عما يشجّعون به نفوسهم في التعاويذ، والصلوات، وتقديم القرابين للأصنام. وشرعوا يسألون شعوذات الفأل وطلاسم الشؤم لعلهم يجدون فيها عضداً لثقتهم المتداعية، أو عذراً لخوفهم المتفاقم.
لم يتركوا نذراً الاّ نذروه، ولا ابتهالاً الاّ رفعوه الى السماء، ولا قوة خفية الاّ استنجدوا بها. كأن كل حركة من حركاتهم، وكل كلمة من كلماتهم، أصبحت ذات وزن في ميزان الأمل والخوف. فقدوا آخر أمل لهم بالانتصار في ساحة القتال، فحاولوا أن يثقلوا كفة الرجاء برحمة السماء، كي لا تخفّ وتشيل، فترجح عليها كفة اليأس والقنوط.
ولم يكن اضطراب الجيش في الجبهة أخف من اضطراب الشعب في روما. فقد ضاق الجنود ذرعاً ولم يعودوا يطيقون صبراً، لأن الانتظار أصبح يؤلمهم، ولأن توقع الشر أشد وقعاً في النفوس المضطربة القلقة من وقوع الشر نفسه. تلك هي الحالة النفسية الخطرة التي مشت بها روما الى معركة كان. فالتصميم الذي اتخذه الشعب الروماني كان خطيراً، ولم يكن تأجيل تنفيذه الاّ ليزيد الأعصاب توتراً، والقلوب هلعاً.
أما هنيبعل فكان في وضع نفسي آخر، يختلف كل الاختلاف عن الوضع الروماني. كان مرتاحاً، هادىء الأعصاب، متفائلاً، يميل الى الدعابة والمرح، فركب جواده وسار، يحيط به أركان حربه، الى مكان مرتفع يشرف على مراكز العدو. وكان أحد أعوانه يدعى جيسكون، فما كاد يرى الجيش الروماني يملأ السهل، حتى قال بصوت ينمّ عن الخوف : " يا له من مشهد عجيب مدهش ... كيف حشدت روما كل هؤلاء الرجال ؟ ما أكثر الرومان ! فأجاب هنيبعل بكل رصانة : " هناك أمر آخر يدعو أكثر الى الدهشة والتعجب، وأنت لم تفكر به، وهو أنه لا يوجد بين هؤلاء الرومان، رغم كثرتهم، رجل يدعى مثلك : جيسكون ! " فضحك السامعون لهذا الجواب، واستبشروا خيراً، لأن انصراف القائد الى التندّر والمزاح، وهو على أبواب معركة فاصلة، من أبرز بوادر الثقة بالنفس، ومن أعظم عوامل النصر. وقد علّق المؤرخون كثيراً على هذه الكلمة، فاستنتجوا منها ان الساحر كان سيد أعصابه، يظل رابط الجأش في أحرج المواقف وأشدها خطراً.
معركة كان
في 3 تموز216 ق.م.، تسلم فارون القيادة، حسب طريقة التناوب بينه وبين اميليوس باولوس، فخرج بالجيش الروماني من المعسكر رغم، تحذير باولوس، واجتاز الاوفيدوس، وتمركز قدام الفرقة الرومانية التي كانت معسكرة هناك.
اخذ الجيش الروماني يتأهب للقتال، فنظم صفوفه على الطراز التقليدي المعروف، اذ اصطفت الفرق الصغيرة المؤلفة كل واحدة منها من مئة رجل، فشكلت جبهة من ثلاثة خطوط، إلا انها كانت متقاربة، متراصة اكثر من المعتاد، ليكون خط القتال اعمق. مما دلً على ان فارون كان ينوي اختراق الجيش القرطاجي وشطره شطرين ليتمكن بعدئذ من سحق كل واحد منهما على حدة. وهذا ما ادركه هنيبعل، واعد العدة اللازمة لاحباطه.
وتابع فارون تنظيم صفوفه، فجعل زميله باولوس على رأس قوة كبيرة من الفرسان في الجناح الأيمن، بين النهر والمشاة، وتولى هو قيادة قوة أخرى من الفرسان الحلفاء، وشغل الجناح الايسر في السهل، وعهد بقيادة قلب الجيش إلى قنصلين سابقين من كبار القادة المجربين، وأبقى في المعسكر قوة احتياطية مؤلفة من عشرة آلاف رجل متأهبين للنزول الى الميدان عندما يصدر اليهم الامر.
يقول جيرار والتر ان الساحر بدا ظاهر الغبطة لما رأى فرسان اميليوس في مجالهم الضيق، بين النهر والمشاة، عاجزين عن القيام باية حركة واسعة، فخيل اليه ان اولئك الفرسان اصبحوا في قبضته، كما لو كان فارون قد دفعهم اليه مكبلين بالحديد. ويكاد المؤرخون يجمعون على القول بأن هنيبعل، لما رأى صفوف الرومان كما نظمها فارون، فكر بوضع خطته العبقرية لتطويق الرومان بصورة تدريجية، تلك الخطة الفريدة التي جعلت من معركة كان اعظم وألمع عملية استراتيجية – تكتية عرفها العالم، حتى قيل انها معجزة الفن العسكري في كل العصور، وهي ما تزال موضوع درس وتحليل في جميع المدارس الحربية.
ومما تجدر الاشارة اليه، للدلالة على انه من المحتمل ان يكون هنيبعل قد ارتجل خطته المدهشة ارتجالا، هو انه عهد بأهم أعمال المعركة وأصعبها الى العناصر الضعيفة في جيشه، تلك العناصر الجديدة وغير المجربة التي لا يثق بها كل الثقة، والتي اعتاد ان يجعل منها نقاط ارتكاز لا أهمية لها في اثناء القتال. اما الغوليون والأسبان، وهم ابطال الجيش، وأشد الجنود بطشا وإقداما، فولى عليهم ضابطا مغموراً لم يعرفه أحد قبل ذلك اليوم، يدعى آزروبعل، وجعلهم في الخط الثاني من قلب الجيش.
لا ريب ان الساحر لمس مواطن الضعف في صفوف الرومان لما وقعت عينه عليها فغدت ثقته بالنصر ثابتة وطيدة. وقد لاحظ الخبيرون العسكريون، بكثير من الاعجاب، انه اتخذ موقفا ارغم فيه الرومان على ان يقابلوه ووجوههم الى المشرق، لتضايقهم اشعة الشمس، فلا يرون اعدائهم بوضوح، بينما يستطيع القرطاجيون ان يروا دون ان يزعج النور انظارهم.
ورأى الساحر، من جهة اخرى، ان الهواء كان يهب من الشرق، فاتخذ موقفه المذكور ليصفع الغبار وجوه الرومان، وهذا ما حدث بالفعل، وما كان من اسباب الهزيمة النكراء التي منيت بها روما.
بعد اتخاذ تلك الاحتياطات التي لم تخطر في بال احد، اخذ هنيبعل ينظم جيشه، فجعل فرسانه الغوليين والاسبان على ضفة الاوفيدوس، امام اميليوس باولوس، وجعل في القلب خطاً طويلاً وغير عميق من المشاة الغوليين والاسبان، وخطاً ثانياً ضيقاً وعميقاً من المشاة الليبيين. فاذا كان من يلقي نظرة على هذا التنظيم يستطيع ان يدرك غاية هنيبعل دون ان يكون مطلعاً على نتيجة المعركة، فمن حقه ان يعتبر نفسه ابعد نظراً من فارون، لأته من الصعب جداً ان يتبادر الى الاذهان ان تلك الصفوف العجيبة التي انزلها الساحر الى الميدان بذلك الشكل الغريب لم يرَ له مثيل من قبل، هي الفخ السحري المنصوب لتطويق الجيش الروماني والقضاء عليه.
اما الفرسان النوميديون، بقيادة ماهربعل، فكانوا على استعداد لمجابهة الجناح الذي يقوده فارون نفسه. ولم يخف هذا الاخير دهشته، حين رأى صفوف القرطاجيين، فأتهم هنيبعل بالجنون، وظن ان فرق الساحر الصغيرة ستفنى تدريجيا كلما اصطدمت واحدة منها بالقلب الروماني الجبار.
بدأ القتال بمناوشات التحمت فيها القوات الخفيفة. ثم شن الفرسان الغوليون والاسبان الذين يؤلفون الجناح القرطاجي الايسر، بقيادة آزروبعل، هجوماً صاعقاً على الجناح الروماني الايمن. وكان هذا الجناح يقوده اميليوس باولوس مؤلفاً من ابطال روما وابناء اعيانها واسرها الكبيرة، فحاول الصمود مستبسلا، واستمات في الدفاع عن نفسه. ولكن الهجوم القرطاجي كان كاسحا، فاجتاح فرسان روما اجتياحا، وسحقهم سحقا،وهم محصورون بين النهر والمشاة، لا يستطيعون ان يقوموا، في مجالهم الضيق، باية مناورة. لقد زال الجناح الروماني الأيمن من الوجود في بدء المعركة، فقتل اكثر فرسانه تحت سنابك الخيل، وسقط باولوس جريحاً في صفوف المشاة، وراح القرطاجيون يطاردون الفارين في السهل الوسيع ويعملون فيهم السيف دون رحمة.
وفي تلك الاثناء كان هنيبعل قد جمّد القلب الروماني في مكانه بدفع المشاة الليبيين الى مجابهته. وكان ماهربعل، في الوقت نفسه، يشغل بفرسانه النوميديين الجناح الأيسر الذي يقوده فارون.
ومما يدل على ان الاوامر التي اصدرها هنيبعل كانت واضحة ودقيقة جداً ، ان ماهربعل لم يكن يريد من مناوشاته غير الالهاء، لأنه لم يهجم، ولم يفسح للرومان مجال الهجوم، فكان يتظاهر بالهجوم ثم ينكفىء شارداً في السهل، ثم يعود متأهباً. وظل كذلك حتى اجهز آزروبعل على الجناح الروماني الايمن ، وانطلق في السهل، وراء الرومان، كأنه في حلبة سباق، ثم جاء يضرب الجناح الروماني الأيسر من الوراء. فتضعضع فرسان فارون، ودب الرعب في قلوبهم، اذ اطبق عليهم آزروبعل وماهربعل، فاستسلموا للسيوف تضرب اعناقهم، وللرماح تغوص في صدورهم، ولحوافرالخيل تدوس هاماتهم، واضطر فارون ان يلوذ بالفرار على رأس خمسين فارسا، تاركا وراءه الجيش الروماني يتخبط في افدح كارثة حلت بروما.
بينما كان الجناحان الرومانيان يتلاشيان، اخذ الساحر يحرك اجزاء فخه الجبار، ليطبق على العدو. فشن على القلب الروماني هجوما عاما، ولكن هجومه كان مبتكرا جديدا وخارجا عن المألوف والمعروف، لان الخط الطويل المؤلف من الغوليين والاسبان تقدم وسطه دون طرفيه، فبدا منتفخا، واتخذ شكل هلال بارز الصدر صوب الرومان، مما جعل قائدي القلب الروماني القنصلين السابقين سرفيليوس وريغولوس، يظنان ان القرطاجي يريد اختراق جيشها لشطره قسمين ثم للقضاء على كل قسم على حدة، فصمدا له وشنّا عليه هجوما معاكسا، ففتحا فيه ثغرة كبيرة، واخذا يقاتلان بضراوة ليوسعا تلك الثغرة حتى تنقطع الجبهة القرطاجية وتنقسم الى شطرين.
وكان هنيبعل ينظر، وهو مرتاح ، الى ما يجري، لأن خطته كانت تتحقق بكل دقة، فلم تمض فترة من الزمن حتى انقلب الهلال القرطاجي البارز الى هلال أجوف، يفتح للرومان زراعيه. فأخذت الفيالق الرومانية تتدفق الى داخله حتى أصبحت مطوقة من ثلاث جهات واضطرت ان تقاتل على ثلاث جبهات.
ان بعض تفاصيل معركة كان ما تزال مجهولة، ولكن بوليب يخبرنا ان الجيش الروماني ظل يتجمع في جوف الهلال القرطاجي، كأن هناك قوة سحرية تجتذبه، حتى اصبح طرفا الجيش القرطاجي المؤلفان من المشاة الليبيين مشرفين على مؤخرته وبارزين وراءها.
بهذا تمت المعجزة وتهدمت حدود المستحيل، اذ أضحى الجيش الروماني مطوقا تقريبا بقوة لا تزيد عن نصف قوته الا قليلا. ان اربعين ألفا من القرطاجيين طوقوا سبعين الفاً من الرومان، وكان من البدهي ا، يتمكن الجيش الروماني من فك الحصار المضروب حوله باستعمال القوة العددية، دون ان يكون بحاجة الى خطة بارعة، او فنون عسكرية مبتكرة. ولكن الساحر كان قد حسب لكل شيء حسابا، واحتفظ بمفاجأته الكبرى ليختم بها المعركة.
فينما كان القلب الروماني يتخبط في موقفه الحرج ويحاول مواصلة القتال في الظروف الصعبة التي وقع فيها بين ثلاث جبهات، كان آزروبعل قد أباد الجناحين الرومانيين، وأرسل كوكبة من فرسانه النوميديين تطارد فلول فرقة فارون ثم جاء يضرب الرومان من الوراء ويجعل جيشهم في نطاق مغلق من الحديد والرجال. وبوصول آزروبعل على رأس فرسانه الغوليين والاسبان، اتضح مصير المعركة فاصبح الجيش الروماني محاطا بالاعداء من كل جهة،
فتضعضع ودب فيه الذعر، وغرق في غمر رهيب من الفوضى، ولا سيما بعد ان ابتعد عنه قائده العام فارون. ولكن كتلة المشاة الجبارة التي يتألف منها القلب، ظلت تقاتل عدوا تفوقه عددا حتى سقط منها آخر رجل.
ان المؤرخين القدماء لم ينقلوا الينا شيئاً عن التفاصيل التي انتهت بها المعركة. فهناك أقوال متناقضة وآراء متضاربة نستطيع ان نستخلص منها حقيقة ثابتة لا يرقى اليها الشك هي ان الرومان الذين خاضوا تلك المعركة ونجوا منها بأعجوبة كانوا في حال من الرعب لا توصف، فانطلقوا في السهل الوسيع يركضون على غير هدى كأنهم أصيبوا بمس من الجنون، وكأنهم لا يصدقون انهم خرجوا احياء من الجحيم الذي اعده لهم الساحر الجبار.
ان مراحل هذه المعركة، بما فيها من براعة التصميم، ودقة التنظيم، وسرعة التنفيذ، كانت وما تزال تثير اعجاب الخبيرين العسكريين في كل زمان ومكان، ويمكن القول ا، هنيبعل مدين بذلك النصر العظيم لعبقريته الفذة أولا، ثم لسببين هما :
1. – رحابة السهل الذي افسح المجال لآزروبعل مجال الحركات الواسعة، والاعمال السريعة الحاسمة، والانتقال الخاطف من طرف الجبهة الى الطرف الآخر.
2. – غرور فارون وقصر نظره، وجهله الفنون الحربية. فهو رجل سياسة اراد ان يرتجل من نفسه رجل حرب بين ليلة وضحاها رغم كونه لا يعرف من الشؤون العسكرية الا القليل.
واغرب ما في الامر ان زميله باولوس كان قائدا مجربا خبيرا، فخضع خضوعا أعمى، عملا بنصوص الدستور الروماني وشريعة التناوب بين القائدين، فدفع حياته ثمنا لذلك الخضوع.
يخبرنا المؤرخون انه، في اثناء المعركة، امر فرسانه بالترجل لئلا يعرقلوا حركات المشاة. ولما علم هنيبعل ذلك قال: "لو سلمني باولوس فرسانه مكبلين بالاصفاد لما سررت اكثر من سروري برؤيتهم يترجلون عن خيولهم". وبالفعل، ما كاد اولئك الفرسان يخسرون خيولهم وينضمون الى المشاة حتى نشروا حولهم الخوف والبلبلة، ولم يعودوا يفكرون الا بالفرار، تاركين قائدهم جريحاً مضرجاً بالدماء ومرتمياً على الطريق، يرى رجاله يركضون طالبين النجاة، وقد تملكهم الرعب، فراحوا يدوسونه في فرارهم، ويتدافعون بالمناكب والصدور، كأنهم في يوم الحشر. الا ان احد الضباط المدعو كورنيليوس لنطولوس، بينما كان لائذا بالفرار دون ان يترجل، رأى باولوس، فاوقف جواده وخاطب القائد الجريح قائلا:
- يا اميليوس باولوس، انت الوحيد الذي يجب ان تعتبره الآلهة بريئاً من الكارثة التي بنا اليوم، فخذ جوادي ما دمت تملك شيئاً من القوة، ودعني ارفعك الى ظهره واحميك. لا تجعل هذه المعركة اشد وطأة علينا بموت قنصل، فسيكون لنا بعدها ما يكفينا من الدموع والاحزان.
فأجاب باولوس:"انت يا كورنيليوس، كن مغتبطاً بشجاعتك، ولكن احذر ان تفقدك الشفقة الباطلة ما بقي لك من الوقت القليل لتنجو بنفسك من قبضة العدو. اذهب وقل علنا للشيوخ ان يحصنوا روما، وأن يملأوها جنوداً قبل أن يصل اليها هنيبعل ظافراً. وقل بنوع خاص لكنتوس فابيوس ان اميليوس باولوس ظل يتذكر توصياته الى آخر لحظة من حياته، وانه اليوم قد مات. دعني ألفظ أنفاسي هنا بين جنودي القتلى، كي لا يتهمني الشعب، بعد خروجي من رتبة القنصلية، وكي لا أقف يوما ما لابرر موقفي باتهام زميلي فارون".
وما ان وصل باولوس الى هذا الحد من كلامه حتى مرت به جماعة كبيرة من الرومان الفارين، ثم وصلت كوكبة من فرسان قرطاجة فرمته بالسهام وقضت عليه. واستطاع كورنيليوس ان يفر هارباً.
قبل ان تغيب شمس ذلك النهار، انتهت المعركة بأضمحلال الجيش الروماني اضمحلالاً تاماً، فبدا سهل كان يغطيه خمسون الف قتيل من الرومان، ثم أقبل الليل فأرخى ستاره الأسود على ركام من الجثث، والجرحى، والاشلاء، وبقايا الاسلحة المحطمة. وارتفعت في الظلام جلبة رهيبة، هي مزيج من الحشرجة، والاستغاثة، والانين.
وقف هنيبعل ينظر الى ذلك المشهد، وقد بدت في قسمات وجهه بوادر الألم العميق، ثم أخذ يتقبل تهانىء ضباطه ورجال حاشيته الذين طلبوا اليه بالحاح ان يتناول شيئا من الطعام، وان يأخذ قسطا من الراحة.
وفي تلك الاثناء، وصل ماهربعل وهو ملتهب حماسة، فأخذ يصيح: "دعونا من الطعام، دعونا من الراحة، فبعد هذا الانتصار العظيم سيرتاح هنيبعل في قلب روما، في الكابيتول، وهناك سيتناول طعام العشاء!".
وخاطب هنيبعل قائلا:"دعني ازحف إلى روما على رأس فرساني، فسيعلم الرومان اني وصلت اليهم قبل ان يخبرهم أحد اني خرجت من هذا المكان!".
فأجاب هنيبعل، بلهجة تنم عن العياء، بأن هذا المشروع عظيم جداً، وعلى جانب كبير من الجمال، ولكنه يحتاج الى درس وتمحيص. عندئذ اطلق ماهربعل كلمته التاريخية التي تناقلتها القرون، اذ قال :"انت يا هنيبعل تعرف ان تنتصر، ولكنك لا تعرف ان تستفيد من الانتصار!". فابتسم الساحر ولم يجب. ثم أمر بتوزيع الطعام على جنوده، وتوجه الى مخدعه حيث غرق في نوم عميق.
لم ينم هنيبعل طويلاً تلك الليلة ولا جنوده ناموا.
فما ان بزغ فجر اليوم التالي حتى هب الجميع الى العمل، الى جمع الغنائم والأسلاب المبعثرة بين عشرات الألوف من القتلى والجرحى. فوقعت عيونهم على أفظع مشهد من، مشاهد الهول.
ولما شرعوا يعرّون الجثث، ويجمعون السيوف، والمدى، والدروع، والخوذ، والتروس، والحلي الذهبية المرصعة بالجواهر، والتعاويذ الثمينة التي يحملها الفرسان والاشراف، أخذت أهوال الحرب تنجلي لعيونهم بكل وضوح. رأوا جنودا أحياء، وقفوا كالحي الوجوه، مرتعدي الفرائص، حين رفعت عنهم جثث القتلى التي ظلوا مدفونين تحتها طوال الليل. ووجدوا جرحى قد حفروا الارض بأيديهم ودفنوا رؤوسهم في التراب ليموتوا اختناقا ويتخلصوا من آلام جراحهم. وكان أفظع ما وقعت أنظارهم عليه، مشهد جندي ليبي ما يزال حيا، وقد عانق جثة جندي روماني ووقع تحتها. ولما كان ذلك العناق المرعب قد حرم الروماني من استعمال يديه فقد انهال على عدوّه عضا ونهشا، فمزق بأسنانه أذني الليبي، وأنفه، وشفتيه، قبل أن يلفظ الروح. وشوهد مئات الجرحى يرفعون رؤوسهم الدامية بين كوم الجثث والاشلاء، ويرسلون الصيحات المدوّية، ثم يقدمون أعناقهم للذبح طالبين النجاة من صقيع الصباح الذي أخذ ينهش جراحهم...
بعد ان فرغ القرطاجيين من جمع الأسلاب، توجهوا الى المعسكرين الرومانيين (المعسكر الصغير والمعسكر الكبير) للاستيلاء عليهما. وكان هذان المعسكران يغصان بالتحف، والأدوات الثمينة، والثياب الفاخرة، والأقمشة، لأن الاشراف الرومان نقلوا معهم كميات كبيرة من الأمتعة كي لا يفوتهم شيء من أسباب الراحة والترف حتى في اثناء قيامهم بواجبهم العسكري. ولكن المعسكرين لم يستسلما، فحاصر القرطاجيون أولا المعسكر الصغير، وقطعوا عنه الماء حتى سقط واستسلمت حاميته المؤلفة من 5700 رجل. وفي تلك الأثناء استطاع 4200 رجل ان يفروا من المعسكر الكبير، فتوجهوا الى كانوزيوم. اما الباقون فوقعوا في قبضة هنيبعل الذي اسر كذلك 2000 رجل في قرية كان فبلغ عدد الذين اسرهم 17300، ولاذ بالفرار 14500، فتجمع منهم 5500 في كانوزيزم حيث وجدوا بيوتا يأوون اليها قدمها لهم السكان. وتبرعت احدى نساء أبوليا – وهي من أصحاب الثروات الضخمة – بما كانوا يحتاجون من الالبسة والطعام اما هنيبعل فلم يخسر سوى 5700 رجل بين قتيل وجريح.
ويجمع المؤرخون على القول بانه كان في وسع هنيبعل ان يسحق الجيش الروماني كله، وان يأسر جميع الأحياء من رجاله، لو ان قرطاجة أرسلت اليه النجدة التي طلبها ليجعل منها قوة احتياطية. ولكن افتقاره الى هذه القوة الاحتياطية مكّن بعض الرومان من الفرار. وقد نقل الينا المؤرخون القدماء تفاصيل ذلك الفرار، فعلمنا ان انصراف هنيبعل الى تصفية المعركة، واعطاء جنوده قسطاً من الراحة، افسح للقوة الرومانية الاحتياطية مجال التحرك، فذهب منها عشرة آلاف الى المعسكر الكبير، وسبعة آلاف الى المعسكر الصغير، وكان الجميع مصممين على الاستسلام، لاعتقادهم ان هنيبعل سيشن عليهم هجوماً صاعقاً. الا ان الضابط سمبرونيوس توريتانوس الذي كان في المعسكر الكبير أقنع 3500 من جنوده بالفرار الى كانوزيوم، للخلاص من الاسر. ولما عرض فكرته على جنود المعسكر الصغير، لم ينضم اليه منهم سوى 600 رجل، انتقلوا اولا الى المعسكر الكبير، ثم هربوا من هناك تحت ستر الظلام.
ولما كان هنيبعل بحاجة قصوى الى المال، لان تجار قرطاجة ضنوا عليه بذهبهم، ذلك الذهب الذي استولت عليه روما فيما بعد دفعة واحدة، فقد عرض على اسراه ان يطلق سراحهم لقاء فدية مالية يدفعونها، فجعل فدية الروماني 300 قرش، وفدية حليف روما 200 قرش، وفدية العبد الرقيق 100 قرش، وهو يعلم انه يمكّن بذلك روما من تأليف جيش جديد قد يعود الى منازلته، ولكن حاجته الى المال اضطرته ان يصرف النظر عن جميع هذه الاعتبارات.
ما بعد كان
اجتمع الرومان الفارون في كانوزيوم وهم يرتعدون خوفا، وينهشهم الجوع، وقد غدوا شبه عراة في اسمالهم البالية، فأسفر اجتماعهم عن تأليف حكومة تشكلت بعوامل فطرية أوجدتها حاجة الجميع الى التعاون والتضامن.
كان أكثر الشبان في هذه الجماعة ينتمون الى الأسر الكبيرة في روما، وبينهم فابيوس الصغير، ابن الديكتاتور، وبوبليوس شيبيو، ابن القنصل الذي قهره هنيبعل في لاتريبيا، فوقع الاختيار على هذا الأخير، وعلى ابيوس كلوديوس، ليكونا قائدي الجماعة. ثم تألف مجلس شيوخ صغير، وأخذ يبحث التدابير الواجب اتخاذها، فرأى أن الحالة يائسة لا أمل فيها ولا رجاء، اذ تبادر الى اذهان الجميع ان هنيبعل سيزحف حتما الى روما الخالية من أية قوة تحميها، وانه سيحتلها ويبيحها لجنوده، فتكون بذلك نهاية الدولة الرومانية.
لم يكن بين أولئك اللاجئين الى كانوزيوم من يصدق أنه سيعود الى بيته في روما، وسيرى أهله وذويه. لذلك أخذ كثيرون يفكرون بالرحيل من ايطاليا للبحث عن عمل في البلدان الأجنبية. وكان مشجع هذه الهجرة وناشر لوائها كاسيليوس ميتيلوس.
ولكن بوبليوس شيبيو، ذلك الشاب الذي أوجده القدر لانقاذ روما، لم ييأس، بل أخذ يحدث رفقاءه عن الخطة الواجب اتباعها لاحراز النصر الأخير. وذات يوم، ذهب مع بعض رفقائه. فدهم جماعة ميتيلوس، وشهر سيفه فوق رؤوسهم صائحا:"أقسم علنا بألاّ أهجر الجمهورية الرومانية، وبألاّ أسمح لأحد من الرومان ان يهجرها. واذا حنثت مختارا بهذا القسم، فاقتلني يا جوبيتر الكبير العادل، ودمر بيتي وأملاكي، وأهلك أهلي جميعاً!". ثم خاطب مواطنيه قائلا:"أطلب اليك يا ميتيلوس، واليكم أيها المجتمعون هنا، أن تقسموا مثل قسمي، واعلموا ان سيفي لن يرجم من يرفض هذا الطلب!". فوقف الجميع وأقسموا مدفوعين بالخوف أو بالخجل أو بالاثنين معا.
ولم يكن بوبليوس شيبيو يومذاك قد بلغ التاسعة عشرة من سنيه بعد، الا أنه قد اشترك سنة 218 في معركة تيسان الى جانب ابيه القنصل شيبيو الذي خسر تلك المعركة وأصيب فيها بجرح بليغ، فانقذه ولده بمساعدة احد العبيد.
أما فارون الذي هرب على رأس خمسين من فرسانه، فقد وصل الى فنوسيا حيث اخذ يجمع فلول جيشه حتى بلغ عدد الذين انضووا تحت لوائه 4500 رجل من الفرسان والمشاة. ولما علم بوبليوس شيبيو وابيوس كلوديوس ان قائد الجيش حي ومقيم في فنوسيا، عرضا عليه الذهاب اليه بمن معهم من الجنود، ففضل المجيء الى كانوزيوم على البقاء في فنوسيا، لان كانوزيوم تبعد عن كان عشرة كيلومترات وتقع على طريق روما، وهكذا استطاع ان يكتب الى مجلس الشيوخ انه يحمي روما بقوة مؤلفة من عشرة آلاف رجل وهذا ما كان يفوق آمال الرومان في ذلك المأزق الرهيب.
وصل فارون الى أبواب روما وهو يبحث عن عذر يتقدم به الى مجلس الشيوخ والشعب الروماني، ولكن الكارثة كانت قد غيّرت ذهنية ذلك الشعب، وجعلته صفوحاً ليّن العريكة، كما جعلت فارون رصيناً هادئاً وبعيداً عن الغرور. وكم كانت دهشة القائد المهزوم كبيرة حين رأى المجلس والشعب يستقبلانه كأنه احرز انتصاراً كبيراً ويقدمان له الشكر لأنه في تلك النكبة الكبيرة لم ييأس من الوطن.
منقــول للكاتب جورج مصروعه
مواقع النشر (المفضلة)