<font color='#000000'>الفصل الثامن
------------
في البيت الخرابة، كان سعيد يالس بروحه في الظلام يحاول يدفي عمره.. حاس ببرودة رهيبة في جسمه ومهما حاول ما يقدر انه يخفف منها.. سعيد يعرف انه مريض ويعرف انه يستاهل هالشي.. يستاهل كل اللي استوى له وكل اللي بيستوي له.. ومع انه بعده ما تجاوز الأربعين، اللي يشوفه يتحراه فوق الستين سنة.. بشرته متشققة وويهه كله بقع.. شعره ابيض وجسمه نحيل وعلامات المرض باينة عليه.. لما يشوف سعيد ويهه بالصدفة منعكس على زجاج الدريشة.. يضحك على عمره.. ويفكر انه شكله الخارجي يعكس بالتحديد حقيقته الداخلية.. انسان يمشي وياكل وهو في الأساس ميت..

قبل سنين طويلة.. لما كان سعيد بعده صبي في المدرسة.. كان يروم يقنع أي شخص باللي يباه .. والسبب اسلوبه الحلو .. كانت الكلمات لعبة في ايده يشكلها على كيفه ويستغلها عشان يوصل لأهدافه.. بس سعيد الحين تمر عليه ايام من دون ما يبطل حلجه يتكلم.. الكلمات ما عادت تعني له أي شي.. سعيد انسان وحيد .. تعود على الوحدة.. انسان دمر حياته بإيده.. الشرب صار عالمه وهدفه في الحياه.. أحيانا.. يبدا يشرب حتى قبل لا ينش من فراشه وقبل لا يبطل عيونه.. لها الدرجة وصل ادمانه..

اليوم الصبح تفاجأ بزيارة حرمة غريبة له.. كانت تدق الباب وكأنها ما تعرف انه سعيد مستحيل يبطل الباب ويرمسها.. وكانها ما تعرف انه الشخص الوحيد اللي يدش بيته هي عموته مريم وبس.. وأول ما سمع سعيد صوت الباب.. عرف على طول انها مب عموته لأن عموته ماتت.. ما يعرف وين سمع هالخبر بس هو متأكد انها ماتت.. وعشان جذه راح يوايج من الدريشة يبا يعرف منو عند الباب.. الحرمة اللي واقفة برى كان شكلها مألوف.. وباين عليها بتتجمد من البرد.. وكانت متوترة وايد وكل شوي تتطالع وراها.. دقت الباب اكثر من مرة ولما محد بطل لها.. نادت عليه " سعيد؟؟؟" .. كان صوتها حلو وقوي .. بس الطريقة اللي نادته فيها خلته يرتجف من الصدمه.. هالصوت خلاه يحط ايده على اذنه ويغمض عيونه حيل عشان لا يتذكر .... ومن حسن حظه انه لما رد بطل عيونه.. كانت اللي واقفة برى خلاص يأست وراحت..

لو كانت صج تبا تشوفه، فكر سعيد، كانت تقدر تبطل الباب بكل سهولة.. لأنه عمره ما فكر يقفله.. يمكن كانت خايفة تدش وتباه يطلع لها برى؟؟ يمكن سمعت الاشاعات اللي الكل يتناقلها عنه؟ الناس يحكون عنه حكايات وايد فظيعة.. ويبالغون وايد.. يقولون عنه انه يستخف في الليل ويهاجم أي حد يشوفه في دربه.. يقولون انه عنده كلب متوحش.. مع انه الكلب اللي كان عنده وايد كسول ومات من سنين.. وبسبب هالاشاعات.. محد صار يمر صوب بيته ولا يكلمه او يحاول يزوره.. الاشخاص الوحيدين اللي يتجرأون ويأذونه هم المراهقين اللي يدورون على المشاكل والإثارة بأي طريقة.. يتقربون قد ما يقدرون من البيت ويفرونه بحصى.. ويتمون يزقرونه عشان يطلع ويطاردهم.. بس سعيد عمره ما فكر يطلع لهم.. ولا يهمه كل اللي يسوونه.. ولا همه حتى لما سمع واحد منهم يقول: " تستاهل كل اللي استوى لك يالطماع.. " .. وفي النهاية .. سكون الليل والظلام والمكان المنعزل اللي سعيد ساكن فيه هو اللي يخوفهم ويخليهم يروحون..

ساعات.. يطلع سعيد ويتمشى في الليل.. لما يتأكد انه الكل نايم.. ويتجنب انه يمر صوب بيته الجديم.. او صوب مزرعة سالم.. واذا كان سرحان ومر من هذاك الطريج بالغلط.. يتم يرتجف ويركض عشان يبتعد بسرعة قبل لا يشوف ولده حمد.. ويوم يوصل بيته، يطفي ناره بالشرب.. إحساس سعيد بالذنب.. واحساسه بنذالته وانانيته وطمعه هو اللي شجعه انه يتخلى عن ولده.. حمد ما يستاهل انه يعيش في هالمستنقع.. عمره ما فكر يشوف ولده.. بس يذكر انه في يوم ومن كثر ما كان متوله عليه.. طلع يدوره.. ما كان يبا شي.. غير انه يشوفه.. مرة وحدة.. نظرة وحدة.. هذا كل اللي كان يباه.. دقيقة من وقت حمد.. كلمة وحدة.. أي شي.. وهذا اللي خلاه يوصل للمدرسة في وقت الظهر عشان يشوف ولده.. ورغم انه ما قدر يميز حمد من بين كل الأفواج اللي طالعة من المدرسة ، بس في داخله.. حس براحة.. وبألم.. لأنه نسى ملامح أعز انسان على قلبه.. وهالشي خلاه يكره عمره اكثر واكثر..

غمض سعيد عينه وفكر بالماضي.. في بداية العشرينات من عمره.. كان يعتبر نفسه محظوظ.. ورث عن ابوه ثروة.. وعنده الحرية المطلقة انه يتصرف على كيف كيفه.. بس النقطة السودة الوحيدة في حياته كان سالم.. سالم هو اللي خلاه يكره ابوه.. وخرب العلاقة الطيبة اللي كانت بينهم.. بس لما تزوج سعيد.. تغير كل شي وانمحى كره سالم من قلبه.. كان سالم توه راد الفجيرة.. وسعيد سمع بهالخبر وشافه اكثر من مرة في السوق بس تجاهله ولا فكر حتى يصد صوبه.. ما كان يبا يشغل عمره بسالم لأنه عنده أشيا اهم يفكر فيها.. مثل زوجته نعيمة.. وبيته.. كل ما كان يفكر بنعيمة.. كان يبتسم على طول.. نعيمة كانت بنت جمالها هادي.. وويهها طفولي .. والأهم من هذا انه قلبها ابيض وابتسامتها تخليه يهدى حتى لو كانت اعصابه مشدودة على الآخر.. يذكر انها كانت دوم تنش من الرقاد وعلى ويهها ابتسامة.. وولدهم حمد خذ عنها هدوئها وطيبة قلبها.. لما كان ياهل ما كان يبكي الا اذا كان مريض.. وكان يلعب بروحه ويوم يتعب يرقد بكل هدوء .. جذي كان سعيد عايش.. حياته هادية وحلوة..

ويا اليوم المشئوم اللي غير مجرى حياة سعيد.. كان سعيد يالس في المقهى ويا ربعه.. وعموته مريم رايحة بوظبي عند حصة.. ومرته نعيمة في المطبخ تزهب الغدا.. حمد، اللي كان عمره يومها ثلاث سنين، كان يالس في المطبخ.. حذال امه يلعب بالمكعبات.. كانت نعيمة تشم ريحة غاز في المطبخ ويالسة تدوّر مصدر الريحة .. ويشكت على الفرن مرتين بس بعد ما اكتشفت شو السالفة.. خصوصا انها غشيمة في سوالف المطبخ ومريم عمة ريلها مدلعتنها وما تخليها تطبخ بالمرة.. طلعت نعيمة حمد في الصالة عشان لا يتأذى من الريحة القوية.. وردت المطبخ تكمل الغدا عقب ما قررت تطنش الريحة.. ردت المطبخ عشان تواجه مصيرها.. كان مصدر الريحة ان الغاز متسرب من الأنبوب الموصل بالفرن وأول ما دشت نعيمة المطبخ.. شمت ريحة الدخان ولما صدت صوب الدريشة انصدمت من اللي شافته.. النار كانت منتشرة على الستارة والكرسي الخشب اللي كان صوب الدريشة .. على طول راحت نعيمة صوب الحريجة وحاولت تطفيها.. بس النار علقت في جلابيتها ووسط خوفها ما عرفت كيف تتصرف او كيف تنقذ عمرها.. كانت تصيح وتفكر بحمد اللي يالس في الصالة ..

في دقايق.. كان الدخان كثيف لدرجة انه اهل الفريج كلهم تيمعوا في البيت.. وفي الوقت اللي وصلت فيه المطافي.. كان المطبخ بكبره محترق.. رجال المطافي حاولوا قد ما يقدرون انهم يحدون من انتشار النار وكانوا مشغولين لدرجة انهم في البداية ما لاحظوا وجود سعيد اللي كان واقف عند باب الصالة.. قريب جدا من النار والرماد يغطي ويهه وشعره.. سعيد ما يعرف شو استوى له في هاذيج اللحظة.. أو ليش تجمد في مكانه وما قدر يتحرك.. ما قدر يحرك أي عضلة في جسمه وهو يشوف بيته يحترق.. بس عيونه اللي كانت تتحرك ودموعه تنزل لا إراديا.. مرته وولده داخل.. يحترقون.. وهو مب قادر يتحرك ويساعدهم.. أو حتى ينادي عليهم.. ربيعه سيف كان أول واحد يلاحظ وجوده.. وعلى طول سأله عن اهله.. ولما ما رد عليه سعيد.. تأكد انهم بعدهم داخل.. وركض صوب المطافي يخبرهم.. وفي نهاية اليوم .. نجا حمد من الحريق وماتت نعيمة..

كانت حالة سعيد ايام العزا هستيرية.. وفي خلال شهر، خسر معظم بيزاته وهو يحاول يبني البيت مرة ثانية.. ولأنه كان تقريبا مب في وعيه.. كان يدش في صفقات فاشلة.. وفوق هذا كله كان يصرف بشكل غير طبيعي.. وانصدم الكل منه لما اكتشفوا انه بدا يشرب وياما حاولت عموته مريم تغير فيه هالطبع ويوم شافت انه خلاص ادمن.. خلته في حاله.. ويوم عرض مزرعة ابوه للبيع عشان يسدد ديونه .. بدوا الناس يكرهونه ويتجنبون انهم يمرون صوبه.. ربعه كلهم تخلوا عنه ولا واحد فيهم حاول ينقذه من الحالة اللي هو فيها.. ويوم باع سعيد البيت والمزرعة، ما كان يعرف انه اللي اشتراهم هو سالم.. وما كان يهمه في الأساس منو اللي اشتراهم ، كل اللي كان يهمه هو انه خذ البيزات ويروم يشتري فيهم السم اللي كان يشربه.. بس طبعا هالبيزات خلصت في لمح البصر.. واضطر سعيد انه يسكن عند عموته مريم لأنه ما عنده مكان يروح له..

وفي يوم من الأيام ، هزبته مريم وقالت له انها مستحيل تسمح لسكير انه يعيش وياها في بيتها وانه لازم يخاف ربه ويتوب.. حس سعيد بالإهانة وخذ ولده وراحوا البيت الخرابة اللي هو الحين عايش فيه.. بس لأنه كان سكران معظم الوقت.. ما كان يهتم بحمد اللي كان يطلع من البيت في الليل ويتجول بروحه وهو ياهل.. ويوم يتعب يرد البيت ويرقد وبطنه خالي.. وفي يوم من الأيام .. شاف سالم حمد يمشي بروحه وعرف انه ولد سعيد.. وتبعه للبيت.. كانت هاذي اول واخر مرة يزور فيها سالم بيت سعيد.. حمد كان عمره اربع سنين وسالم كان متزوج أصيلة.. سعيد ما يعرف ليش سالم خذ حمد.. وما حاول انه يمنعه.. كان يعرف انه حمد لو تم وياه راح يضيع في النهاية.. ويعرف انه سالم اكيد بيهتم فيه.. ومن هذاك اليوم اللي طلع فيه حمد من البيت ويا سالم.. ما شافه سعيد بس سمع من مريم انه سالم يعامله مثل ولده.. وارتاح لهالشي..

تنهد سعيد وفكر كيف بتكون حياته لو انه عامل سالم كأخ.. هل كان بيحاول يطلعه من هالدوامة اللي هو عايش وسطها؟ ولما يبدا يفكر بهالافكار ويكبر احساسه بالذنب.. يطالع من الدريشة ويحاول يفكر بطريقة ينتحر فيها.. وساعتها يتذكر انه اصلا بدا ينتحر من اول ما بدا يشرب.. انتحار بطيء .. صح.. بس في النهاية بيوصله للي يباه

في الليل .. لما الكل يكون نايم.. يسمع سعيد صوت النار.. وأول ما يغمض عينه .. يشوف ابتسامتها .. ويحس بقلبه يتقطع.. وفي لحظة تختفي هالصورة وتحل محلها صورتها وهي تحترق.. وتصرخ باسمه .. تترجاه ينقذها.. ويبدا سعيد يصيح بعنف.. ويمد ايده للكاس .. يمكن يلاقي راحته فيه..


نهاية الفصل الثامن</font>