::
شوق الصحــارى :: المتفيجـــة :: شكرا على تعقيبكـــم
::
:: الحلقـــه الثــانيـــة ::
أثر كـــلام الفتـــاة في نفـــس الملكـ ، وأثــار شعــور بالإحبــاط الكامن فيهــا وأجّج من جديد نار الرغبــة في أن يصبــح أبــا فيمـلأ الأولاد عليه حياته ، وتقرّ بهم عينـاه ، ومكــث فترة في مكانــه ساهمـا تتقاذفـه الافكــار وتتجــاذبه ، وهو في حيرة من أمره ، ثم نهض متثـاقلا وكأن حملا ثقيـلا وضع فوق ظهره ، وتوجــه عائـدا الى القصـر .
دخل الملك إلى قاعـة الجلوس ، فوجود الملكــة في انتظــاره فسلــم ، وجلــس الى جانبهــا ، فقالـــت له : أيـــن كنــت أيهــا الملكـ ؟
فقال لها : شعرت بشيء من الضيــق و الملل فخــرجت أتجــول بين الحــدائـق والبســاتيــن للترويــح عن نفســي .
فقــالت له الملكــة : أرجــو أن تكــون الجولـــة قــد تحققــت لكـ ذلكـ ؟ فأجابهــا الملك دون ان يستطيــع اخفـاء نبرة الحــزن المسيطــرة علــى صوتــه ، الحمــدلله ... لقــد ذهــب عنـي المـلل ، ثـم قام فقـامت الملكــة وتوجهــا الــى قاعــة الطعــام لتنــاول العشــاء . لاحظــت الملكــة ان الملك لم يأكــل كعــادته بشاهيــة ونفـس مفتــوحة ، وإنمــا كان يأكــل ببطء شديد ، فيضــع اللقمــة في فيه وهو شــارد الفكـر ، وبعد العشــاء ، لم يتــوجــه الملــك الـى قاعــة الجلــوس وإنمــا توجــه الى غرفــة النــوم ، فتبعتــه الملكــة وهي في حيرة من أمره .
استلقــى الملك على فراشــه الوثيــر ، وأغمــض عينيــه طلبــا للنوم لعلــه ينسيــه معاناتــه ، ولكنــه لم يكــد يغمــض عينيــه حتــى عادت كلمـات الصّبيــة الــى مسامعــه واضحــة جليــة .. لو يتزوجنــي الملك أنجــب له طفــلا كالشمــس وبنتــا كالقمــر .. أخــذت هذه الكلمــات شيئــا فشيئــا تطــرق رأس الملــك طرقــا شديدا حتى أقضّــت مضجعــه وسيطــرت على كــل جزء من جسمــه فـأخذ يتقلــب في مكــانه يمنــة ويســرة وكأنــه نائــم على الشــوك ، فلاحظــت الملكــة ذلــك فســألتــه :
مــالــك يا مولاي ؟ أتشعــر بشــيء يؤلمـــك أم هو الأرق ؟ فأجــابهــا الملــك : بـل الأرق عزيزتـي .. ثم قـام وتوجــه الــى الشــرفــة المطلـة على حـديقــة القصــر ، فتبعتـــه الملكــة وهي تقــول : لابــد وأن شيئــا هــامـا يشغـل بالـك .. فهــلا أخبــرتني يا مولاي لعلــي أخــفف عنــك بعــض الشيء ؟ وقبــل أن يجيبهــا أخـذ الملــك نفسـا عميقــا من النسمــة اللطيفــة والرقيقــة التي هبـت فجــأة فـأنعشــت جسمــه وهـزت الأشجــار هزا خفيفــا وكأنهــا كانت تداعبهــا وتهدهدهــا .
ثــم التفــت الملــك الــى الملكــة وهو يقــول : لا تشغــلي بالــك بي يا عزيزتـي .. إنـه نتيجــة التعــب حتمــا .. ثــم عــاد ينظــر إلــى الأشجــار وظـلالهــا المتراقصــة على ضــوء القمــر ، وكــان من حيـــن الــى آخــر يأخــذ نفســا عميقــا فشعــر بالراحــة والهــدوء يعـودان إليـه ، وكأن كـل نفـس كـان يأخذه بمثابــة البلســم الشافي لجـراح نفسـه المتعبــة .
وقفـت الملكـــة قليــلا بجــانب الملــك ثـم أخذت تتثــاءب من حيــن الــى آخر فقــال لهــا : اذهبـي إلـى فراشـــك يا عزيزتي لتنــامي فقـد غلبــك النعـــاس .. طابت ليلــتك .. فأدركــت الملكــة انــه يريد صرفهــا ليختــلي بنفسـه فلم تعقّـب على ذلـك وآوت إلــى فراشهــا بعــد أن تمنــت له ليلــة سعيـــدة .
رفــع الملـــك رأســه ونظـــر إلــى القمـر وأخــذ يتأملــه وفجأة تذكـر كلمـات الصّـبية ، لو يتزوجنـي الملك أنجـب له طفلا كالشمس وبنتا القمر .. فتنهـد الملك وخفـض رأسـه ليعـود بنظـره إلى الـحديقـة وهو يقـول : طفلا كالشمس وبنتا كالقمر ! ... ليت هذا الحلم يتحقق ! .. لو يتحقق ذلك فسوف أكون أسعـد البشر .. وأغمـض الحلم يتحقق ! .. لو يتحقق ذلك فسـوف أكون أسعـد البشر .. وأغمـض الملـك عينيــه فترة من الزمــن حالمـــا بالسعــادة و المرح اللذيـن سيسودان جوّ القصـر في وجود مهنـد وريـم .. غمغم الملـك : مهنـد وريم ثم فتـح عينيه وهو يردد : مهند وريم .. اسمـان جميـلان حقـا .. ولكـن كيف السبيـل الى تحقيق هذا الحلم دون الإســاءة إلــى الملكــة أو فقـدان ودهـا ؟ .. لا بد وأن تتفهم الملكــة هذه الرغبــة وأن تقدر إحساســي ، سأفاتحهـا بذلك في الغــد وأضـع حدا لقلقي وعذابي .. ثم أخذ الملـك نفسـا عميقـا ونظر إلى القمـر ، الذي غطتــه سحابـه خفيفـة ، وكأنـه يودعــه ، ثم آوى إلى فراشـه وهو ينتظــر طلـوع صباح الغـد ليفــاتح الملكــة برغبتــه في الزواج .
قضــى الملــك ليلتــه بين النائـم والمستيقـظ ، بين الأمــل واليأس ، بين الحلـم والواقـع . كانت نفسـه مضـطربة واحاسيسه متـداخلـة ومتشابكـة بين سعـادة خفيّـة تغمــره من حين إلـى آخر ، فيشعــر بلذتهــا وخشيــة غامضــة تسيطــر على نفســه تارة أخرى .. وأخيــرا طلـع الفجـر بعــد أن فقد الأمـل في طلوعـه من طول الانتظـار وكثرة ما اعتراه من التفكيــر .
أعـد الملـك نفســه للخروج ، ثم نزل إلى حديقـة القصـر ، كان الجــو باردا ، فشعـر الملك بقشعريرة تسري في كل خلايـا جسمـه فكـانت بمثابة الحقنـة المنشطــة فبعثـت في كامل جسمـه الهمـة والنشـاط ، وأحس بالدم ساخنـا ينساب في عروقـه .
قضـى الملــك فترة طويلــة ما بين الهرولة والمشي الخفيـف ، وما بين الوقوف وتأمـل الورود ، وهي تتفتــح لتزيـل عنهــا حبـات النـدى المتلألئـة ، كأنها حجارة كريمـة تحت اشعــة الشمــس الذهبيــة ، وعنـدمـا ارتفعـت الشمـس وعم الدفء ، جلـس الملــك تحت مظلــة شيـدت من الحجــر المرجاني والأسمنــت وأعــدث خصيصــا لتكــون مجلســه في الهواء الطلــق .
نادى الملـك أحـد الخـدم وأمره بأن يبلـع الطاهي بأنــه سيتناول الإفطـار بالحديقـة ، وأمره بأن يبلغ ذلك إلى الملكـة لكي تحضر لتناول الافطـار معـه .
انتظــر الملـك قدوم الملكـة وهو يفكـر ويرتب الكلمـات والجمــل التي سيبدأ بها حديثـه معها . وبينما كان الخدم منشغلين في إعداد السفرة وإحضار الطعـام ، أقبلت الملكة فحيّت الملك وجلست إلى جانبه وهي تقول : لعل مولاي أصبح اليوم في أحسن حال ؟
:: يتبـــع ::
:: المقــاتل ::
مواقع النشر (المفضلة)