بالاضافة الى كل ما سبق فقد اكتشف العلماء في السنوات الاخيرة بروتينات توجد في المنطقة المخاطية تلعب دورا مهما في عملية الشم، وتعمل على:
* نقل الجزيئات الذائبة في السائل المخاطي الى المستقبلات.
* الارتباط بالمستقبلات التي تنقل الرائحة بشكل اشارات عصبية الى الدماغ.
* تخليص المنطقة الشمية من الجزيئات القديمة عن طريق تحطيمها، لكي تعطي فرصة للجزيئات الجديدة للوصول الى المستقبلات.
* وقاية المستقبلات من زيادة تركيز جزيئات الرائحة عن الحد الطبيعي.
ومع هذا الايجاز البسيط الذي يعتبر شيئا ضئيلا جدا مما عرفه العلماء، الا ان هناك امورا كثيرة لم يتسن للعلماء فهمها عن عملية الشم وكيف تتم داخل هذه التركيبة من البروتينات والمستقبلات والاعصاب؟ وكيف نميز بواسطة هذه الالية بين الروائح المختلفة؟ بالاضافة الى وجود نواقل عصبية كثيرة تشترك في هذه العملية لم يحدد نوعها الى الان.
وقد أضاف هذا عبئا كبيرا على الطب، حيث يعاني الاطباء من عدم قدرتهم على معالجة فاقدي حاسة الشم، وعلى الرغم من كون هذه الحالة غير مؤثرة بشكل كبير على الحياة، الا ان الباحثين قد لاحظوا ان فاقدي القدرة على الشم يصابون بحالة من الاكتئاب وتغير في طبيعة حياتهم. وذلك بسبب وجود علاقة كبيرة بين حاسة الشم والعواطف، والمزاج، والذاكرة، وجهاز المناعة، والهرمونات في الجسم، ووصل البعض الى القول ان هناك علاقة بين حاسة الشم والعلاقات الاجتماعية.
وقد ظهرت نظريات عديدة في هذا المجال، الا انها لم تعط تفسيرا كاملا لعملية الشم، او فشلت في تفسير حالات معينة. لذلك اتجه الباحثون الآن الى التقنيات الجينية من اجل حل هذه المسألة، وقد زودتنا هذه التقنيات الحديثة بمعلومات جديدة كانت خافية عن الباحثين، الا انه وبسبب كون هذه التقنيات ما زالت في بداياتها، فالفهم الكامل لمثل هذه الامور ما زال بعيدا، او كما يحلو للبعض القول: “نحن في الخطوات الاولى من الف ميل”.
حل اللغز
يقوم عالم الاعصاب لوردس كاتز قبل بداية محاضرته في كلية الطب في جامعة ديوك في ولاية كارولينا الامريكية بفتح قنينة تحتوي على مادة ذات رائحة كريهة جدا. الكثير من طلابه يغادرون مقاعدهم نتيجة عدم تحملهم للرائحة، بينما لا يتأثر كاتز لانه لا يشم هذه الرائحة. تأتي مثل هذه الاختلافات في حاسة الشم من التباين في المستقبلات الشمية، التي هي عبارة عن بروتينات موجودة على سطح الاعصاب الحسية التي تحدد طبيعة الرائحة الكيميائية المتطايرة التي تصل الى مجارينا التنفسية. يوجد لدينا عدد كبير من هذه المستقبلات المميزة، والتي من خلالها نستطيع تمييز عدد كبير من الروائح والتي قد يصل عددها الى 10000 نوع مختلف. لكن من دون فهم كامل لكيفية تشفير هذه المعلومات بواسطة المستقبلات الشمية.
يقول ستيوارت فيرستين، عالم الاعصاب في جامعة كولومبيا في ولاية نيويورك الامريكية: “يعتبر انف الثدييات افضل كشاف كيميائي في العالم، ومازلنا الى الآن لا نفهم كيف يعمل”. وفريق فيرستين كان اول من استطاع تحديد التفاعل الجزيئي بين مستقبل معين وجزيئات الرائحة. وقد حدد العلماء عن طريق التجارب، ان كل خلية حسية تحمل نوعا واحدا من المستقبلات. وتشفر هذه المستقبلات التي توجد في الثدييات فقط من قبل عائلة كبيرة من الجينات. فعلى سبيل المثال يمتلك الفأر، الذي يمتاز بحاسة شم قوية جدا، ما يقارب 1200 جين معظمها في حالة عمل. لكن عند الانسان هناك حالة شبه معكوسة، فقد حصلت طفرات في ثلثي جينات المستقبلات الشمية حولتها الى جينات غير فعالة. وكما يبدو فإن هذه المستقبلات قد فقدت قدرتها على العمل منذ اسلافنا الاوائل نتيجة الطفرات التي حصلت، كما هو الحال بالنسبة للقدرة البصرية الكاملة على رؤية الالوان. لكن بالرغم من ذلك فمن الصعب مقارنة انخفاض حاسة الشم مع حاسة البصر، فمن السهولة تحديد الخلية الحسية التي تستجيب للاطوال الموجية للضوء في قرنية العين. فعبر عقود مضت، استعمل علماء الاعصاب اجهزة تسجيل الالكتروظيفية (Electrophysiological recording)، لتسجيل وتجميع وتحليل الاستجابات لنماذج بصرية معقدة. لم يستطع الباحثون في مجال حاسة الشم البناء على مثل هذا الاساس الثابت، فمادة عطرية مفردة يمكن ان تميز من قبل عدة مستقبلات شمية، وكل مستقبل منها يمكنه تمييز عدة انواع من الروائح. وهذا يعني ان تحديد اي رائحة يتم تشفيره عبر مجموعة من الخلايا الحسية. لكن المشكلة الكبيرة تكمن في ان الشفرة لم تحل حتى الان، وقد تعرف علماء الشم الى الآن على درزن واحد فقط من المستقبلات الشمية عند الثدييات. وبصراحة اكثر، فإن الباحثين لم يتمكنوا من تحديد اي عصب حسي يحمل مستقبلا واحدا. طرحت العديد من النظريات التي تحاول تفسير ذلك، ومنها ان آلية العمل هنا تتضمن اعادة تنظيم باتجاه واحد (غير عكسية) للحامض الرايبي(DNA) لجينات المستقبل الشمي، بطريقة تشابه ما يحصل في خلايا بيتا المناعية (B-cells) في جهازنا المناعي حيث انها تقطع وتلصق جيناتها لانتاج نوع واحد فقط من الاجسام المناعية (Antibodies). لكن دليل الاثبات كان ضعيفا لدعم ذلك، بالاضافة الى ان تقنية الاستنساخ قد محت هذه النظرية. فعند نسخ فأر من خلية بيتا مفردة، فإن جهازه المناعي ولد نوعا واحدا فقط من الاجسام المناعية. بينما عند نسخ فأر من خلية شمية عصبية ناضجة، فإن الفأر الناتج كان لديه تنوع في المستقبلات الشمية. وهذا ادى الى طرح سؤال جديد وهو كيف يفعل العصب الشمي ذلك اذا لم يستطع ان يعيد تنظيم جيناته لانتاج مستقبل مفرد؟ وللاجابة عن هذا السؤال يقول راندال ريد من كلية جونز هوبكنز الطبية الجامعية في بالتيمور في ولاية ماريلاند، الذي درس هذه المشكلة: “انه لا يفعل ذلك، فكل المستقبلات تتكون اولا ثم تختص بعمل واحد تدريجيا”. لكن الطفرات التي حصلت في جينات المستقبلات الشمية ادت الى ان هذه الجينات ستبقى فعالة لكنها في الوقت نفسه لاتؤدي الى انتاج مستقبل فعال. ومن خلال تجربة تم في عمل انتقال جيني في فأر يحمل جينات تشفر مستقبلات عاملة واخرى غير عاملة، لاحظ فريق العمال بقيادة راندل ريد وهيتوشي ساكانو من جامعة طوكيو، انه في حال ملاءمة العصب الحسي لهذا الجين، فإنه يشفر المستقبل الفعال مباشرة، ويترك المستقبل الاخر غير الفعال. وان مصير الخلية سيتحدد بذلك، وسوف تعمل الخلية على انتاج نفس المستقبل لما تبقى من عمر الخلية. لكن عملية ضمان عدم تحول هذه الجينات المتعددة في الخلايا، يبقى امرا غير واضح. ربما بسبب ان الجينات يجب ان تتفاعل عشوائيا مع نوع من الجزيئات التي تتوفر بكمية قليلة.
لدى سانكو نظرية اخرى، فهو يفترض ان جين المستقبل الشمي يحتاج الى ان يتفاعل مع منطقة تمتد من الحامض الرايبي (DNA)، تعرف بمنطقة تحكم لوكوس (Locus Control Region) (LCR)، مكونة بعض البروزات على الكرموسوم نفسه. ويمكن لهذه المنطقة ان تلتف وتضم جينات الشم، وهذا ما يحاول سانكو اثباته، لكن ذلك يمكن ان يحصل لجين واحد في المرة الواحدة. اما بالنسبة لمجموعة من هذه الجينات، فقد لاحظ سانكو ان اختفاء جزء صغير في منطقة تحكم لوكوس اطلق عليها تسمية الموقع ه (H)، سيؤدي الى بقاء مجموعة الجينات هذه غير فعالة. وبالرغم من كل هذه الاكتشافات، الا ان المعرفة الكاملة في كيفية انتاج مستقبل فعال من قبل الخلايا الحسية المفردة سيبقى منطقة مظلمة لبعض الباحثين لتفسير كيف تقوم هذه الخلايا بالتعرف على الروائح. وللمساعدة في كسر هذه الشفرة، يجب على الباحثين اولا دراسة التفاعلات بين المستقبلات ومختلف الروائح لكل خلية مفردة. لكن من الصعب جدا تنمية وعزل هذه الخلايا عن محيطها، وهذا ما ولد مشكلة كبيرة للباحثين الذين حاولوا اختراق شفرة الشم، كما ان الخلايا المجاورة لها تحتوي على مستقبلات مختلفة. الا ان الحل البديل موجود ايضا، فمن خلال الهندسة الجينية للخلايا سيتمكن العلماء من جعل هذه الخلايا اكثر قابلية للاستزراع في المختبر وحمل المستقبلات على سطوحها. لكن الجهود في هذا المجال ايضا تصاب بالاحباط بشكل دائم بسبب الفشل في نقل المستقبلات الشمية الى الغلاف الخارجي للخلايا المهندسة جينيا. يحاول هيرواكي ماتسيونامي من جامعة ديوك اخراج هذه التجارب من عنق الزجاجة الذي وصلت اليه. ففي عمل غير منشور له، يذكر فيه ان المستقبلات الشمية بحاجة الى بعض المساعدة من احد انواع البروتينات لايجاد طريقها الى سطح الخلية، فاذا ادخلت جينات المستقبل والجينات التي تشفر هذا البروتين معا الى داخل الخلية، فستجد هذه المستقبلات طريقها الى السطح. بدأ ماتسيونامي باستعمال هذه الطريقة على الخلايا التي اطلق عليها اسم خلايا هانا (Hana) مشتقا من التسمية اليابانية للانف لاكتشاف اي جزيئات الرائحة ستميز بواسطة المستقبلات المختلفة. لكن هذه المهمة ليست بهذه البساطة، فدليل جديد جاء من قبل فريق العمل بقيادة كازيوشيك توهارا من جامعة طوكيو، يقترح ان بعض الروائح يمكنها ايضا اغلاق مستقبلات الشم، بدلا من تنشيطها. هذا يعني ان تجاويف انوفنا ستمثل ساحة معركة يتنافس فرسان الروائح مع بعضهم لتنشيط او اغلاق مستقبلات الشم. وقد ادركت بعض معامل انتاج العطور هذا المفهوم، فعملت على اضافة جزيئات لمنتجاتها لتعزيز رائحتها. فعند اضافة بعض الروائح الى خليط العطور، فإن البعض سيلغي رائحة البعض الاخر او سيغير رائحة الخليط التي نشمها. يقول ديفيد لانك، عالم الاعصاب في جامعة جنوب ويلس في مدينة سيدني في استراليا: “لدينا قدرة وظيفية محددة تمكننا من التمييز بين ثلاث روائح في الوقت الواحد”. بالاضافة الى ان هناك انواع من الروائح يمكن ان تكون قوية جدا بحيث تطغى على الروائح الاخرى او حتى تلغي تأثيرها. ومع هذا كله، فإن العلماء يأملون في التمكن يوما ما من فك شفرة مستقبل الشم. تقول كارينا دننيس، وهي صحفية من مجلة الطبيعة، عن هذا الموضوع: “لو تمكن العلماء من فك شفرة مستقبل الشم، فإن ولع علماء الاعصاب بحاسة الشم سيزداد ليصلوا الى الموقع الذي وصل اليه زملاؤهم ممن درسوا حاسة البصر قبل عقود من الان، وسيمكنهم هذا من دراسة خلايا مختلفة من هذا النظام، وربما يساعدهم على فهم كيفية تشفير المعلومات في المستقبلات وبمراحل اعلى بكثير مما هم عليه الآن”.
مواقع النشر (المفضلة)