<font color='#000000'><font color=#ff0000>* حكايات وقصص واقعية، تدور من حولنا، نسمع عنها فنتعجب ونستغرب ونتفاعل مع أصحابها، وفي النهاية تبقى العبرة والحكمة اللتان توصلنا إليهما من تلك القصص*


</font>الرغبة الأخيرة....
إننا توأم أنا وأخي ورغم ذلك.. لسنا متشابهين في شيء أبداً.. لسنا مثل باقي التوأم الذين يحتار المرء كيف يفرق بينهم.. بل على العكس تماماً فأنا وأخي لا يصدق أحد بأننا تشاركنا في بطن واحدة..
نحن مختلفان كلياَ، بدءاً من الشكل والمظهر، فأنا ممتلئ وقصير نسبياً أما هو فطويل ونحيل.. ملامح وجهينا مختلفة أيضاً فهو قريب الشبه إلى أبي رحمه الله.. وأنا أشبه أخوالي.. وحتى طريقة التفكير والطباع والميول.. إننا على النقيض تماماً أنا أحب الفرفشة واللهو والعبث.. أما هو فإنه ملتزم وجاد ولا يحب أن يضيع وقته أبداً فكل دقيقة عنده لها حساب..
كنا معاً في المدرسة، هو متفوق وأنا أنجح اعتماداً عليه، كان يساعدني في حل واجباتي، ويبذل جهداً كبيراً لإفهامي الدرس، على الرغم من تطنيشي المستمر إلا أنه لا يكل ولا يمل من متابعتي، كنت أتضايق من إلحاحه الشديد علي في الدراسة.. ومن سحبي بالقوة على المسجد لأداء الصلاة، كنت أحس أنه عبء علي لأنه يلاحقني باستمرار ولا يمنحني فرصة للعب واللهو والتمتع.. حاولت مراراً أن أزجه في عالمي وفي طريقة تفكيري وأن أنبهه إلى ما يحتويه العالم من مباهج ومتع ولكنه كان يحبطني باستمرار فهو ينظر لكل شيء بعك اهتمام.. وكأنه لا يعنيه شيء من كل ذلك، سألته يوماً يا أخي ألا تحس بكل الأشياء الرائعة التي تهم الشباب؟ قال لي: وما هي تلك الأشياء؟ قلت له: البنات الجميلات، الألعاب المسلية، جلسات الشباب، ألا يعجبك كل ذلك؟ قال لي: لا أجدها ممتعة وبصراحة فأنا لا أريد أن أَضيع وقتي في الجري وراء تلك الأشياء التافهة.
في الثاني الثانوي اختار هو الفرع العلمي واخترت الأدبي، عندها تنفست الصعداء أخيراً لأنه لن يكون معي ولن يصدع رأسي بمتابعته لي، وكما توقعت فهو انهمك في دراسته وتركني ألهو وألعب كما أشاء، وفي آخر العام جاءت النتيجة المروعة وهي رسوبي ونجاحه بتفوق..
وفي السنة التي تليها حصل هو على شهادة الثانوية العامة بمعدل ممتاز وأن نجحت بمعجزة إلى الثالث الثانوي.. بعد ذلك ألتحق أخي بالخدمة البحرية، فهو يعشق البحر منذ طفولته وكان حلمه الوحيد أن يكون بحاراً..
بعدا صار يتغيب عن المنزل لفترات، وعندما يعود كان يحدثني عن البحر وعن رحلاته الطويلة وعلاقته الطيبة بزملائه ومرؤوسيه من الأجانب والعرب..
رسبت في الثالث الثانوي وتركت الدراسة والتحقت بالعمل في الجيش، لأنني كنت واثقاً من عدم نجاحي خصوصاً وأن أخي أصبح يتغيب عنا كثيراً ولا وقت لديه ليساعدني على المذاكرة.. عندما يعود من سفره كان يبدو حزيناً مكتئباً، اعتقدت أن ذلك سبب إحساسه بالمسؤولية، فقد توفي والدي وتركنا على مسؤولية الوالدة، وقد شاركها أخي ذلك الإحساس ولم يتركها تشعر بأنها لوحدها بل أصبح أقرب الناس إليها، يحاول جاهداً أن يملأ حياتها بالاهتمام والرعاية، فالمسؤولية التي تركها والدي لم تكن مادية وإنما كانت معنوية بحته، لذلك فقد بادر أخي تلك المبادرات الطيبة نحو والدتي مما زاد تعلقها به بشكل كبير جداً.
عندما وصل إلى سن العشرين، طليت منه والدتي أن يتزوج وبقيت تلح عليه في ذلك إلحاحاً شديداً، فاستجاب لطلبها و وافق على أن تخطب له بنتاً من عائلة ممتازة وتم عقد القران على أن يتم العرس في العام القادم..
في إحدى زياراته لنا حلم أخي حلماً غريباً فقال: رأيت وكأنني قد مت وأن رجالاً يلبسون ثياباً بيضاء يحملوني على رؤوسهم، كنت أشاهدكم جميعاً وأنتم تبكون علي ولكنني لم أستطيع أن أتحدث معكم.
استمعنا إليه وهو يروي لنا حلمه وقد كان متأثراً بشكل كبير فطمأنته أمي بأن ذلك أنه سيعيش عمراً طويلاً إن شاء الله، لم يرتح قلبه لذلك التفسير فأخذني معه فذهبنا إلى أمام المسجد بجور بيتنا فسأله عن تفسير ذلك الحلم بدت علامات الحزن والأسى ترتسم على وجه الإمام فقال لأخي: أنت إنسان مؤمن والموت حق علينا فلا تخشى شيئاً وتوكل على الله..
لم يقتنع أخي بهذا وأخذني وذهبنا إلى شخص آخر معروف بالورع والتقى على تأويل الأحلام، فسأله عن تفسير ذلك الحلم فقال له: أرجو أن تسدد ما عليك من ديون وأن تستسمح من حولك، فأجلك قريب جداً..لم يكن لأخي ديون ليسددها فذهب إلى كل من يعرفهم ليسلم عليهم ويستسمحهم والكل مستغرب لذلك التصرف، كنت أرافقه في كل ذلك وأنا مضطر لمجاملته لأنه لا يأتينا إلا بعد غيابات طويلة، ولكني بصراحة كنت متضايقاً وأشعر بالكآبة من هذه الأمور..

بعد ذلك الحلم بشهر واحد، جاءنا أخي من سفره وكان مبتسماً سعيداً يضحك وينكت فاستغربنا جميعاً لتصرفه هذا، وعندما أراد العودة أخذ يقبل أمي ويحتضنها بلهفة وكان يريد أن يودعها، ثم سلم علي وعلى أخوتي بحرارة وأعطانا ما لديه من مال وانصرف..
بعد أربعين ليلة من ذلك الحلم، كلن على ظهر الباخرة مع زملاءه في وسط البحر، اتصل بخطيبته وسلم عليها واستسمحها ثم سألها هل تريدين الطلاق أم تريدين الترمل؟ أخبرها بأنه سيموت في هذا اليوم،فاستغربت من قوله ودعت له بالعودة بالسلامة، وطلبت منه أن لا يملأ رأسه بالوساوس وان يجعل قلبه مطمئناً دائماً..
ثم اتصل بالمنزل ليتحدث مع الوالدة والأسف فقد كان الهاتف مقطوعاً، فاتصل بي وطلب مني أن اذهب إلى المنزل لأنه يريد أن يسلم على والدتي، فأخبرته بأنني مشغولاً جداً ووعدته بأن اتصل به بمجرد عودتي للمنزل..
عاود الاتصال بي عدة مرات وتوسل إلي أن اذهب إلى البيت ليسلم على أمي السلام الأخير وليودعها، قلت له: أرجوك لا تجعل أمي في حالة قلق عليك، فقد أصبحت تتكلم بغرابة والوسواس يملأ قلبك.
توسل إلي واتصل بي عدة مرات ولكني لم اكترث له فقد كنت مع أصدقائي في رحلة ولا أنوي العودة مبكراً إلى المنزل، أخيراً قمت بإغلاق الهاتف لأتخلص من إلحاح أخي..
في آخر الليل عدت إلى المنزل واتصلت بأخي فلم يرد على الهاتف فنمت توماً قلقاً جداً..
<font color=#ff0000>في الصباح اتصل بي أحدهم ليخبرني بأن أخي قد مات.. كنت مذهولاً لا أدري ماذا أفعل ذهبت إلى أني لأوقظها من نومها واخبرها بما حدث فوجدتها مستيقظة وتبدو قلقة جداً، بمجرد أن شاهدتني عند الباب، قالت: ماذا حدث لأخيك؟ قلت لها: لقد مات، جلست في مكانها وبقيت صامتة...
أخبرني زميله الذي حضر العزاء قائلاً: لقد حاول أن يسلم على والدته ولكنك لم تستجب له وأغلقت الهاتف، فانزوى في سريره وأخذ يبكي ثم أخذ مسجلاً صغيراً ووضع فيه شريطاً للقرآن الكريم فنام وهو يستمع ل
ذلك الشريط.. في الصباح كنا قد تعودنا منه أن يوقظنا على صلاة الفجر ولكنه لم يستيقظ، فحاولت أن أوقظه فاكتشفت بأنه قد فارق الحياة، فأخبت قائد السفينة الذي جاء ووقف أمامه وهو يؤدي التحية العسكرية لمدة طويلة ودموعه تتساقط بغزارة، مع أنه أجنبي إلا أنه بقي مستغرباً من طريقة موته ومن النور الذي كان يخرج من جسده.
</font>توقعت أن تنهار أمي لموته وأن تصاب بأمر خطير، ولكني فوجئت بها وهي تسجد لربها حمداً وشكراً وتدعو الله أن يحشراها مع ولدها أينما كان ،، كل ذلك مر علي وأن في حالة من الذهول وعدم التصديق، فهل يعقل أن يطلع إنسان على موعد موته بهذا الشكل..؟؟؟&#33;&#33;&#33;

صرت ألوم نفسي لوماً شديداً لأنني لم أحقق رغبته الأخيرة في التحدث إلى أمي، وبقيت متمسكاً بساعة اللهو التي كنت أقضيها مع أصحابي، لقد تغيرات حياتي بعد موته، وصرت أسأل نفسي لو كنت أنا مكانه ومت بسرعة فكيف سأواجه ربي وأنا لاه في هذه الحياة ولا أفكر بآخرتي أبداً ؟؟
لقد أعدت حساباتي كلها وصرت أنظر لكل شيء بشكل جدا كما كان يفعل أي رحمه الله....


<font color=#ff0000>منقول من جريدة الاتحاد ..</font></font>