<font color='#000000'>الخليج الثقافي
2004-07-05
تعتمد حتى الآن على جهود شخصية
قراءة في أفلام من الإمارات
د. عواطف نعيم
الصناعة السينمائية ليست وسيلة للمتعة والتسلية فقط، بل هي فن وثقافة، وهي في جوانبها التثقيفية وسيلة فعّالة للتصدي للظواهر السلبية ومكافحة الآفات الاجتماعية، وإعادة قراءة التاريخ البشري برؤى معاصرة، تمد جسوراً ما بين الماضي والحاضر، هي رسالة أخلاقية وتربوية لمعالجة العديد من القضايا الفكرية والإرهاصات النفسية، السينما متعة بصرية تملك سحرها في قدرتها على إشاعة روح الجمال والخير، عبر خلق عوالم وأجواء إيحائية تعززها اللقطة المنتقاة بعناية في أحجامها المختلفة وحركة الكاميرا واستخدام الإضاءة والموسيقا واللون والأداء التعبيري المتقن، ذاك الذي يمنح الصورة البصرية دلالتها الموحية التي تغنيها عن استخدام الملفوظ.
ميزة السينما أنها تمنح معانيها وتبث شفراتها عبر الحركة المعبرة والتشكيلات الدالة في إطار المشهد المرئي، ولا يمكن أن نغفل أهمية اللون في الشريط السينمائي، فهو معبّر في حد ذاته يحمل في جوهره عناصر تغني وتوضح المضمون، جاء الاهتمام بالسينما في أغلب المجتمعات البشرية لتأثيرها الفاعل في المتلقين لحظة المشاهدة، وهي في الوطن العربي ظاهرة ثقافية لها حضورها، لا سيما في مصر وتونس والمغرب وعدد من بلدان الخليج العربي والعراق، وإن تراوحت ما بين التميز في فترة من فتراتها الذهبية، إذ جعلها تقدم أشرطة عُدت علامات في تاريخ السينما العربية، وفي فترات أخرى هبطت لتقف دون المستوى الذي يليق بها كتاريخ وحركة فنية، ومنها ما بدأ فتياً يبشر بالعطاء ثم تعثر في خطواته فظل يراوح مكانه مكتفياً بما ينجز، حذراً من تجاوز خطوط حمر في هذا البلد أو ذاك، والسينما هي ليست فقط أشرطة سينمائية تعرض أعمالاً ممتعة أو موجهة تعكس شعاراً أو فكراً محدداً، السينما كما يؤكد ذلك د. يوسف عيدابي في مقالة له يتحدث فيها عن السينما والعمل السينمائي: إنها فن وصناعة، وهي ليست فناً فردياً بل هي عمل جماعي يحتاج إلى بشر ومعدات وأدوات لصياغة رؤى مغايرة وجديدة تتصف بالجمعية والمشاركة الإنسانية المبدعة المثرية للوجدان والعقول. لذا فالسينما صناعة مضنية لا سيما حين تكون في البدايات في أي مجتمع من المجتمعات التي تسعى لتبنّيها وتطويرها.
السينما في الإمارات
في دولة الإمارات العربية المتحدة هناك سعي حثيث للنهوض بصناعة السينما على أيدي العديد من الشباب المتحمسين والدارسين هذا الفن. وقد تنوّعت توجهاتهم في الاختيار ما بين الأفلام الروائية التجريبية والأفلام التسجيلية والأفلام المتوسطة والقصيرة والقصيرة جداً، إضافة إلى الأفلام الدعائية والإعلانية، معتمدين في صياغة مواضيع أفلامهم تلك على نصوص محلية أو قصص عالمية تُعد أو تقتبس، مستعينين بالطاقات المحلية لشعراء وكتّاب وفنيين، لكنهم في الكثير من الحالات يقدمون على إنتاج تلك التجارب بجهود شخصية، لا سيما في توفير الدعم المادي للإنتاج، إلا في بعض الإنتاجات التي يقدم فيها الدعم المادي من بعض المؤسسات الفنية أو الجهات الرسمية، تجلّت فعالية تلك المحاولات والتجارب من خلال المهرجانات التي أقيمت سواء في المجتمع الثقافي في أبوظبي أو في الشارقة في قصر الثقافة، في المهرجان الأخير الذي جاء بعد ثلاث سنوات على أول تجمع حقيقي لأفلام من الإمارات والذي أسهم فيه طلبة وهواة يتساءل الشاعر إبراهيم الملا: هل ان التجربة قد نضجت وأن الحصاد أصبح لامعاً ومبشراً وقابلاً للقطف، وأن هذه الأفلام باتت مرصودة تحت مجهر المعاينة وإصدار أحكام نقدية واضحة تجاهها؟ طبعاً لا يمكن لنا أن نحكم على التجارب المقدمة بعيداً عمّا حولها وما يحيط بها من مؤثرات. ولكننا إذا أردنا أن نفعل ذلك فلا بد أن يتم الحكم وفق تذوّق سينمائي يعتمد كما يقول “الان كاسبيار”: على ثلاثة مستويات هي: الوصف والتفسير، وتحديد السمات الجمالية. فليس هناك قواعد عامة ممكن أن نعتمدها في إطلاق الأحكام النقدية على فيلم بعينه لكن القراءة الجمالية الحقيقية لكل ما يتضمنه الفيلم من مكونات سمعية وبصرية وأدبية وتاريخ الفيلم ذاته تمنحنا معياراً نقدياً للتقويم.
أفلام مغايرة
في مهرجان “أفلام من الإمارات” الذي أقيم في قصر الثقافة في الشارقة وكانت قاعة المؤتمرات مكاناً قدمت فيه العروض في الفترة من 20 إلى 22 ابريل ،2004 وأشرفت دائرة الثقافة والإعلام على تنظيمه، سنحت الفرصة للعديد من عشاق السينما للاطلاع على تجارب جديدة في هذا الفن الممتع، إذ تم عرض ما يزيد على 31 فيلماً شاركت في إنجازها مجموعة من الشباب الدارسين والهواة لهذا الفن، وتوزعت الأفلام ما بين الأفلام التسجيلية والروائية، المتوسطة والقصيرة، والقصيرة جداً، أتاح هذا المهرجان توفير جو لقراءة نقدية متأنية وموضوعية من خلال متابعة عدد من الأشرطة السينمائية المشاركة، التي تميزت عن غيرها في مستويات عدة منها طبيعة المضمون، وآلية الاشتغال والمعالجة، التي منحها حضورها المؤثر لدى المتلقي لحظة المشاهدة وأثر في خارطة المشهد الإبداعي مخرج أو تفرّد ممثل، أو تميّز سيناريست، من هذه الأفلام التي لا بد لنا من التوقف عندها هي الأفلام التالية: فيلم “أرواح” فكرة وإخراج السينمائي الشاب نواف الجناحي، وفيلم “رغبة الوهم” لعبدالحليم أحمد قائد، وفيلم “الوحل” لجمعة السهلي، وفيلم “على رصيف الروح” لأمجد أبو العلاء.
هذه الأفلام اختلفت في زمنها، ففيلم “أرواح” كان قصيراً جداً مثل التماعة فكرة، والبقية جاءت في زمن متوسط في طوله، وهذه التجارب السينمائية هي لهواة ومحبين ودارسين لفن السينما، ورغم ذلك كانت هذه الأفلام في لغتها التقنية منها والحرفية بمستوى فني أرقى كثيراً من المستوى الذي ظهرت عليه الأفلام السينمائية الأخرى المشاركة في المهرجان المذكور. فهي قد امتلكت الجرأة على مناقشة مواضيع معاصرة تشكل خطراً مقلقاً في المجتمع العربي وبضمنها المجتمع الإماراتي. فالسينمائي نواف الجناحي في فيلمه “أرواح” ناقش، وبلغة سينمائية مكثفة، مشكلة الاغتراب عن الآخر حتى في البيت الواحد، وعدم القدرة على التواصل معه، فاللقطة متوسطة في منظر ثابت وكرسي يذكرنا بكرسي الاتهام في المحاكم، الثبات ميزة اللقطة، الشخصية هي المتحركة داخل دائرة الضوء المحاصرة بالظلمة، ما ان تبدأ الشخصية بالحضور ومحاولة إلقاء التحية للتواصل مع الآخر، حتى تجابه بإطلاق رصاص رمزاً لانعدام أي فرصة حوار. لعل الطفل هو الشخصية الوحيدة التي لم يتم إلغاؤها، ربما لأنها لا تزال غير قادرة على اتخاذ قرارها الذي يسمح لها بالجلوس والمحاورة، وهي في الأغلب لن تكون مهيأة للتواصل ولكنها مستعدة بحكم تجربتها الغضة على التطبع والتنفيذ، الفكرة في “أرواح” جلية، والتنفيذ بقدر بساطته كان بليغاً وعميقاً يدلل على عقلية إخراجية تعرف كيف تركب وتشكل وتلتقط الأفكار كما تلتقط اللُقى، نواف الجناحي مشروع إبداعي قادم لا بد من رعايته ومنحه ما يستحق من دعم وفرص عمل لتنفيذ رؤاه وأفكاره.
الفيلم الآخر هو “على رصيف الروح” قصة وسيناريو وإخراج أمجد أبوالعلاء، تقوم فكرة الفيلم على موضوع الاغتراب والضياع لمجموعة من الشباب العرب الذين يعانون من مشكلات نفسية بسبب العلاقات الاجتماعية والأسرية والتأثرات الدينية، إنهم يمثلون جيل الشباب الذي وجد نفسه في أرض الشتات بعيداً عن جذوره ومنبع أصالته، فضاع في زحمة الاتهامات والملامات والمصالح المتشابكة والقسر النفعي التي دفع ثمنها ضغوطاً نفسية ينوء تحت وطأتها وبحث مستديم عن كيانه الإنساني المجدي. حركة الكاميرا القلقة والإيقاع السريع اللاهث، والاستخدام الشفيف للغة الحوار والحميمية التي طغت في الأداء، منحت الفيلم جمالاً ودفقاً دراماتيكياً، رغم السوداوية التي غلبت على أجزاء عدة من الفيلم، كان للمثلين حضور راقٍ، فيه الكثير من التلقائية، وهذا الفيلم أيضاً بشّر بعقلية إخراجية ذات قدرة تركيبية وحسّ جمالي متميز.
الفيلم الآخر الذي لا بد من الحديث عنه هو “الوحل” وقد كتب قصته الفنان سالم الحناوي وأخرجه الفنان جمعة السهلي، في هذا الفيلم رصد لظاهرة خطيرة باتت تؤرق المجتمع الإماراتي هي ظاهرة تفشي المخدرات، الفيلم اعتمد في تقديم رؤيته الفنية على الصورة البصرية الموحية عبر فضائها المفتوح للتأويل، إذ تقع الأحداث داخل مكان يمثل امتداداً صحراوياً كل ما فيه جاف ومتشقق، فجأة يرفع شاب رأسه وكأنه يستفيق من غفوة طويلة وهو يعاني من عطش شديد وكل ما حوله يباس، معفّر ومترّب، يبدو كمن تاه عن مكانه في أرض جافة وهو في طريقه لأن يهلك ويذوب تحت أشعة شمس حارقة، وفي حركة الكاميرا في ذلك الجزء الرملي الجاف ومع ذلك الشاب التائه يضجّ سؤال: ما الذي يحدث لهذا الشاب؟ ويجيء الجواب مفاجئاً وحزيناً حين تستقبل الكاميرا رجلاً عجوزاً بصيراً تقوده امرأة في مثل عمره ليجلسا عند قبر حديث ويبدأ برش الماء على ذلك القبر ويبكيان فقيدهما الغالي، وقتها ندرك أننا في مقبرة، ونكتشف من خلال الصورة البصرية ودلالاتها العميقة أنهما والدا ذلك الشاب الذي يصرخ من دون أن يرياه، ذلك الشاب أنهى حياته الغضّة بتعاطيه المخدرات، حارماً نفسه من متعة الحياة ودفء العائلة، وحارماً والديه المسنين من رعايتهما بعدما أوهن الكِبر ظهريهما، فأذنب في حق ذاته كذلك في حق والديه، إنها إشارة بليغة ورقيقة تنبه إلى مخاطر وأضرار المخدرات وتحذّر من تعاطيها بعيداً عن المباشرة والوعظ القسري، بلغة سينمائية مكثفة وموحية، بعيداً عن الحوار، فلم نكن نسمع سوى صوت المؤثر من رياح وأنفاس وخرير ماء ونهنهات بكاء، فقد كان المشهد البصري شديد الدلالة وتركيب اللقطات عبر المونتاج منح الفيلم تكامل الفكرة، وكان أداء الفنان مروان عبدالله لافتاً، كما كان إخراج جمعة السهلي يعد بقدرته على معالجة مواضيع اجتماعية ببساطة ممتعة.
<span style='color:#0066cc'>الفيلم الأخير الذي لنا معه هو الآخر وقفة ويستحق الثناء، هو فيلم “رغبة الوهم” لعبدالحليم أحمد قايد، هو فيلم روائي يعالج موضوع المخدرات، إلا أنه تناولها بطريقة كوميدية ساخرة، معتمداً الأسلوب البوليسي الذي يكتنفه الغموض والترقب في تقديم حكاية الطرد الذي ينتقل من يد إلى أخرى بمنتهى الحذر والسرية في جو مشحون بالترقب والتشويق من دون أن نعرف ماذا يحوي هذا الطرد، وبقدر ما كانت حركة الممثلين حذرة ومتلصصة كانت حركة الكاميرا هي الأخرى سريعة في تنقلاتها وزواياها المتابعة والمراقبة لما يدور، فكأنها ممثل آخر يرقب ما يجري بالإحساس العالي نفسه بالسرية، ويشخص السؤال المهم كعلامة استفهام حمراء اللون: ما الذي يحويه هذا الكيس الذي يُنقل من شخص إلى آخر، ومن مكان إلى مكان بكل هذه الحيطة والتكتم؟ وحين يصل الكيس السري في نهاية رحلته العجيبة إلى صاحبه الذي يتلقفه بلهفة ويخرج ما فيه ويضعه في فمه ليلتهمه متلذذاً بعدما يكون قد تعجّب من قلته وضآلته، نكتشف أن هذا الشيء المخفي داخل الكيس السري أشبه بلوح شوكولاته وإن ما وصل من هذا اللوح هو جزء ضئيل قياساً باللوح الأساسي الذي اختفى وتضاءل في تلك الرحلة السرية للكيس.
تعود بنا الكاميرا ثانية لترصد حركة انتقال الكيس من شخص إلى آخر، ومن مكان إلى مكان، ولكن في هذه المرة تكشف لنا حقيقة ما حدث، إذ إن الكيس أثناء تنقله في كل مرة يُقتطع من لوح الشوكولاته الذي يخفيه جزء من قِبل الشخص الذي يحمله حتى لحظة ما قبل الوصول الأخير في رحلة الكيس العجيبة. إذ تسقط آخر قطعة من لوح الشوكولاته داخل مكان قذر ولكنها تُنظف وتُعاد إلى الكيس لتصل إلى صاحبها الذي يضعها في فمه متلذذاً بطعمها في الوقت الذي يدرك فيه المتلقون حقيقة تلك القطعة ونوع القاذورات التي انغمست فيها لحظة سقوطها ويشعرون بالتقزز والقرف من ذلك. ولم تكن قطعة الشوكولاته إلا رمزاً للمخدرات وحقيقتها المقرفة.
لقد عبّر هذا الفيلم الجميل وبطريقة ذكية عن بشاعة تعاطي المخدرات وخطورتها ولكن بأسلوب كوميدي، ومن دون أن يعمد إلى الوعظ أو الثرثرة الفائضة، بل كان واضحاً، ساخراً وموجزاً في إيصال المعلومة وتحقيق الرسالة في سيناريو حركي رسم بدقة ومهارة، فيها ابتكار وطرافة.</span>
هذه هي السينما. إنها إحساس بالجمال ورؤية للعالم والكون بعين شاعر تنفذ إلى عمق الأشياء وتبحر في لجّة الحياة لتخرج بعد ذلك بالرؤى الواعية والمستلّة من هموم البشر وأوجاعهم، هي ليست إنشاءً وتركيباً وإنتاجاً وتخطيطاً وتنظيماً وإدارة فقط، بل هي مشاركة جماعية إبداعية في تناغم وتناسق قادر على إنتاج معانٍ عبر حيوات جديدة تحمل المتعة والفكر والجمال.. وما أحوجنا إلى سينما تثري حياتنا وتمنحنا أفقاً لرؤية العالم بعين الشاعر وروح الصوفي.
<img src="http://oasis.bindubai.com/emoticons/smile.gif" border="0" valign="absmiddle" alt=':)'></font>
مواقع النشر (المفضلة)