<font color='#000000'>~ الليلة الحمراء ~
الحلقة الرابعة و العشرون
* * * * * * * * *
كلما تذكّرت الدمعة الحبيسة في عين سامر، التي كاد يطلقها لحظة عناقنا الأخير.. تفجرت عوضا عنها عشرات الدموع من محجري.
لم يكن ما فعلته شيئا يغتفر.. إنه سامر رفيق الطفولة و الصبا و المراهقة.. إنه أعز إنسان لدي.. لكنه ليس الأحب..
في صباح اليوم، عندما رأيته.. تلوّت أمعائي و أصابني مغص شديد مفاجئ للكدمات التي شوهت ما لم يكن مشوها من جسده النحيل.
حين حاولت التحدّث إليه لم يرد علي، حتى بدأت أقنع نفسي بأن اللكمات التي تلقاها فكه قد أعجزته عن النطق ، ألا أنه تحدّث مع دانة التي انفردت به مطولا في غرفتها .
بالتأكيد كان حوارهما يدور حولي و حول ما سببته من مشكلة معقدة بغبائي و تهوّري...
و كل هذا، لأنني اكتشفت أنني أحب وليد !
أحب رجلا وحشا مفترسا... لم يسبب لي منذ ظهوره في حياتي من جديد غير الألم و المعاناة...
و لو استهلكت كل كلمات الندم الموجودة على وجه الأرض، ما كفاني ذلك لأعبّر عما أشعره هذه اللحظة من الذنب...
الآن، أنا فتاة طائشة ناكرة للجميل و المعروف، حطّمت قلب الرجل الذي يحبها و يتلهف لإسعادها، من أجل رجل لم تعرف عن حقيقته شيئا أكيدا، غير أنها تحبه..وتتمناه.. و حينما يعود والداي، و يرحل وليد، كما رحل سامر، فإن كل شيء سينتهي.. و أفقد عائلتي.. و أعود يتيمة وحيدة كما قدمت إليهم قبل 15 عاما...
بين الفينة و قرينتها تجيء ابنة خالتي نهلة لتتفقدني، فتراني كما تركتني.. أهيم في أفكار بائسة لا نهائية.. في ضياع و تشتت.
كنت أحاول النوم على سريرها، إذ أنني قضيت الليلة الماضية ساهرة سهر النجوم.. وحيدة وحدة القمر.. باكية بكاء المطر.. تعيسة تعاسة السواد المخيم على السماء... تتلاعب بي الأفكار تلاعب الرياح بورقة شجر صفراء جافة.. فقدت فرعها و أصلها و جذرها و تاهت في صحراء لا نهاية لا.. و لا بداية.
" أما زلت مستيقظة ؟ "
سألتني نهلة و القلق الشديد يتملكها و يحوّل وجهها البشوش الصريح إلى مغارة من الغموض و الحيرة..
قلت:
" أنى لعيني النوم يا نهلة، و قد فعلت ُ ما فعلت ؟ .. غدا مساءا سيعود والداي.. ماذا أقول لهما ؟ يا إلهي لا أريد أن أريهما وجهي.. "
" هّوني عليك يا رغد، لستِ أول و لا آخر فتاة تحل ارتباطها من خطيبها بعد سنين من الخطوبة ! لا عليك يا ابنة خالتي.. هل تعتقدين أنهم سيطردونك من المنزل مثلا من جراء فعلتك هذه ؟؟ "
قلت:
" لا أستحق العيش تحت كنفهم بعد الآن... بل لا أجرؤ على العودة إليهم ! أوه لو رأيت الطريقة التي خاطبتني بها دانة هذا اليوم.. "
و تذكّرت كلماتها القاسية التي وجهتها إلي بعد مغادرة سامر، مكسور الخاطر...
قالت نهلة:
" و منذ متى كانت طيبة معك ! إنها دائما قاسية عليك، دعك ِ منها.. لكن عندما تعود أمك يا رغد، أخبريها بحقيقة الأمر.. أخبريها بأنك لم تحبي سامر يوما و أنك... تحبين وليد !"
قلت بأسى و اعتراض:
" مستحيل ! لا يمكن أبدا... و لا بشكل من الأشكال ! كيف يا نهلة كيف ؟؟ و ماذا سأجني من قول هذا ؟ أم تظنين أنها ستقول : لا بأس ، ننقلك من سامر إلى وليد ، بهذه البساطة ؟؟ "
و جعلت أندب حظي الذي أوقعني في مأزق كهذا..
" ليته لم يسافر و يتركني.. ليته لم يعد ! ليتني أستطيع التوقف عن التفكير به ! ليته يحس بي... ليت معجزة سماوية تجعله يرتبط بي و تجعل سامر ينساني.. ليته يختفي من حياتي و قلبي.. ليته يظهر الآن و ينتشلني من كل هذا ! "
و حشود من الأمنيات تمنيتها في عجز عن تحقيق أي منها... أو حتى تخيّل تحقيقها.. ألا أن واحدة منها تحققت فورا !
طرق الباب هاهنا و دخلت سارة و قالت:
" قريبك الكبير أتى يا رغد "
نظرت نحو سارة بقلق مفاجىء و انعقد لساني، فتحدّثت نهلة بالنيابة و قالت :
" من تعنين سارة ؟؟ "
قالت :
" وليد الطويل ! "
أنا و نهلة تبادلنا النظرات ذات المعنى، ثم قلت:
" ماذا يريد ؟؟ "
سارة قالت وهي مبتهجة:
" سأل أولا عن والدي و أخي، و كلاهما غير موجود ! ثم قال: ( هل ابنة عمي رغد هنا ؟ ) قلت ( نعم ) قال: ( هللا استدعيتها من فضلكِ يا آنسة ؟).. قال عنّي آنسة ! "
و بدت مسرورة بهذا الاكتشاف العظيم ! إنها آنسة ! ما أشد فراغ رأس هذه الفتاة !
يبدو أنها المرة الأولى التي تسمع فيها أحدا يطلق عليها هذا اللقب !
قلت:
" أين هو ؟"
قالت:
" في الخارج ! عند الباب "
نظرت إلى نهلة و قلت:
" لا أريد العودة إلى البيت.. لابد أنه جاء لاصطحابي إلى هناك. لن أذهب "
و سرعان ما كانت سارة على وشك الذهاب إليه و هي تقول:
" سأخبره بذلك "
نهلة صرخت:
" انتظري سارة ! ما بالك ما أن تلتقط أذناك كلمة حتى أسرع لسنك ببثها ؟ اذهبي و أخبري أمي عن قدومه حتى تتصرف ! "
و انصرفت سارة مذعنة للأمر ! و بكل سرور !
بعد ثوان حضرت خالتي، و قالت:
" سأذهب للتحدث إليه، لا تقلقي "
ألا أن قلقي بدأ يتضاعف هذه اللحظة...
ذهبت خالتي ثم عادت بعد دقيقتين تقول:
" يرغب في التحدث معك، تركته واقفا في الحديقة "
هممت بالنهوض، فقالت:
" ما لم ترغبي في ذلك فسأصرفه "
قلت:
" لا داعي خالتي. سأصرفه بنفسي "
و تلوت ُ بعض الآيات في صدري لتمنحني القوة على الوقوف أمامه من جديد !
في الحديقة الصغيرة الأمامية للمنزل، وجدت وليد واقفا على مقربة من الباب. سرت إليه أجر قدميّ جرا... في خوف و اضطراب.
كنت أعلم أن خالتي و ابنتيها يراقبنني من النافذة !
حينما صرت أمامه، بادر هو بإلقاء التحية ، ثم سألني :
" أ أنت بخير ؟؟ "
إنه سؤال عادي جدا يتداوله الناس عشرات المرات في اليوم لعشرات الأسباب ، ألا أنني احتجت وقتا قياسيا للتفكير في الإجابة !
هل أنا بخير ؟؟
لما رأى وليد ترددي و حيرتي قال:
" تبدين بحال أفضل.. "
نطقت لا إراديا بصوت خفيف:
" نعم "
قال:
" هل نعود إلى البيت إذن ؟؟ "
هنا تحدثت بصوت عال مندفع:
" لا ! "
فوجىء وليد بردي فقال:
" لم ؟ إنها الثامنة.. هل تودين البقاء أكثر ؟؟ "
قلت:
" نعم "
" إلى متى ؟ تأخر الوقت ، دعينا نعود فقد تركت دانة وحدها "
" لا ! "
بعد وهلة واصل وليد كلامه:
" هل تنوين المبيت هنا ؟؟ "
" نعم "
" هذه الليلة فقط ؟ "
" لا "
" كل ليلة ؟؟ "
" نعم "
" أتمزحين ؟؟ "
" لا "
" إذن فأنت جادّة ؟؟ "
" نعم "
" و هل تظنين أنني سأسمح بهذا ؟ "
" لا "
لم أكن أنظر إلى وليد بل إلى الحشيش الأخضر المغطي للأرض...في تشتت.. لكنه حين قال:
" لا أم نعم ؟؟ "
انتبهت ُ لسؤاله الأخير، و لجوابي الأخير... و رفعت عيني إليه بارتباك و قلت:
" نعم.. أعني بالطبع نعم "
قال:
" بالطبع لا "
كانت نظرته مليئة بالإصرار.. ، قال:
" فلنعد إلى البيت يا رغد "
قلت:
" لا "
قال :
" أليس لديك تعليق غير نعم و لا ؟ دعينا نذهب الآن لأنني لا أريد ترك دانة بمفردها أطول من هذا "
" لا أريد العودة، سأبقى هنا"
" لماذا ؟ "
" أريد البقاء مع خالتي.. أريد بعض الهدوء و الطمأنينة بعيدا عنكم "
يبدو أن كلماتي قد ضايقت وليد لأن تعبيرات وجهه الآن تغيرت .. قال:
" غدا سيعود والداي و نضع حدا لكل شيء. ستسوى الأمور بالشكل الذي تريدينه أنت ِ.. لا تقلقي و لا تضطري نفسك للتضحية.. "
قلت:
" لكن سامر لا يستحق.. لا يستحق ما سببتُه له، و لا ما فعلت َ أنت به.. مسكين سامر.. "
و حتى تعاطفي مع سامر أزعجه و زاد من حدّة تعبيرات وجهه الغاضبة.. قال:
" ستسوّى الأمور غدا أو بعده. لن أسافر قبل أن أتأكد من أن كل شيء يسير على خير ما يرام "
و كلمة أسافر هذه دقّت نواقيس الخوف في صدري... قلت بسرعة:
" تسافر ؟ هل ستسافر ؟ "
قال:
" سيعود والدي و تنتهي مهمّتي "
و كم قتلتني جملته هذه... ألا يكفيني ما أنا به حتّى يزيدني هما فوق هم ؟؟
قلت:
" و زفاف دانة ؟ "
تنهّد و نظر إلى السماء.. و لم يجب.
قال بعدها:
" هيا رغد "
لم أشأ العودة... فلأجل أي شيء أعود ؟ لأجل أن أذرف المزيد من الدموع.. لأجل أن أعيش المزيد من الحسرة ؟؟ ألأجل أن أراه و هو يرحل من جديد ؟؟ نعم، فهو قد جاء في مهمة محددة أنجزها و سيغادر..
كرر:
" هيا يا رغد ! "
قلت باعتراض:
" لن أذهب معك. سأبقى هنا لحين عودة أمي "
ازداد استياؤه و قال بما تبقى له من صبر:
" رجاءا يا رغد.. هيا فأنالا أحبذ أن تباتي خارج المنزل "
" لكنه بيت خالتي و قد اعتدت على هذا "
" عندما يعود أبي افعلي ما تشائين و لكن و أنت ِ تحت رعايتي أنا، لا أريد أن تباتي في مكان بعيد عني "
" لماذا ؟ "
" لن أشعر بالراحة لذلك و أنا متعب بما يكفي، و لا ينقصني المزيد من القلق. تعالي معي الآن "
شعرت بالغيظ من كلامه. من يظن نفسه ليتحكم بي هكذا ؟ إذا كان أبي لا يمانع من مبيتي في بيت خالتي من حين لآخر فما دخله هو ؟؟
" لن آتي "
قلتها بتحد ٍ، فنظر إلي بعصبية و صرخ بحدّة:
" رغد ! "
انتفضت ُ من جراء صرخته المخيفة هذه.. و حدّقت به مذعورة.. تتسابق نبضات قلبي لدفع الدماء خارجه عشوائيا..
عيناه كانتا متمركزتين على عيني و حاجباه مقطبين و وجهه غاضب عابس مرعب.. يثير الفزع في نفس من لا يهاب الوحوش !
تراجعت إلى الوراء خطوتين في هلع.. كنت أتمنى لو تستطيع رجلاي الركض، ألا أن الفزع صلّب عضلاتهما و جمّد حركاتهما..
وليد مد يده نحوي فارتعدت.. في خشية من أن يلطمني.. لكن يده توقفت في منتصف الطريق... قلت باضطراب و ارتجاف:
" سـ .. أحضر حـ .. قيبتي "
و استدرت ُ مرعوبة و جريت بضع خطوات فارة، ألا أنه ناداني مجددا:
" رغد "
تصلبت ُ في مكاني و رجلي معلقة فوق الأرض.. ثم
التفت إليه بخوف يفوق سابقه.. ماذا الآن؟ هل ينوي صفعي أو ماذا ؟؟
أراه يقترب مني أكثر و لا أقوى على الفرار.. حين صار أمامي مباشرة نظر إلي بعمق.. و قال:
" رغد.. ما بالك فزعت ِ هكذا ؟؟ "
لم أنطق و لم يخرج من فمي غير تيارات الهواء السريعة اللاهثة..
وليد حدّق بي بانزعاج و مرارة و قال:
" رغد ! هل تظنين أنني سأؤذيك بشكل من الأشكال ؟؟ "
ثم تابع:
" أنت ِ مجنونة إن فكّرت ِ هكذا "
نظر إلى أصابعي المتوترة المرتعشة، ثم إلى عيني المفزوعة ثم تنهد بضيق و قال :
" حسنا، سوف أمر بك غدا قبل أن نذهب لاستقبال والدي ّ.. لكن إذا أردت الحضور قبل ذلك فأعلميني و لا تطلبي ذلك من ابن خالتك.. "
ما زلت أحدّق به نصف مستوعبة لما يقول...
قال بصوت خفيف دافىء:
" اعتني بنفسك.. صغيرتي "
ثم ختم:
" تصبحين على خير "
و استدار.. و سار مبتعدا.. و غادر المكان.
بقيت أنا أراقبه حتى غاب... و غاب معه قلبي و حسّي...
سرت ببطء عائدة إلى الداخل فوجدت الثلاث في انتظاري.. سألت خالتي:
" إذن ماذا ؟ "
قلت:
" سيأتي غدا... "
و صعدت أنا و نهلة إلى غرفتها من جديد...
قالت:
" بدوت ِ مضطربة رغد ! ماذا قال لك ؟؟ "
أمسكت بيديها و قلت:
" نهلة.. سأجن.. لا أعرف لم أصبح هكذا ؟ إنه مخيف ! "
" رغد ! ماذا قال ؟؟ "
" لا أذكر ما قال ! ماذا قال ؟؟ لا أدري نهلة إنني أفقد تركيزي حين يكون على مقربة ! لا أعرف ما الذي يصيبني ؟؟ "
و لم أتمالك نفسي... تفجرّت عيناي بسيلين متوازيين من الدموع الدافئة تسابقا على تبليل خديّ الحزينين...
" رغد.. عزيزتي تماسكي "
" إنه سيسافر.. من جديد يا نهلة سأحرم من وجوده.. من رعايته.. من أن أراه.. و أتعلّق به.. و اسمعه يناديني ( يا صغيرتي ) كما كان يفعل منذ طفولتي.. لا أحد يناديني هكذا حتى الآن.. كيف سأتحمّل عودة حياتي خاليه منه و قلبي أجوف لا يسكنه أحد ؟ سأجن يا نهلة إن تركني و غادر.. لا أحتمل ذلك.. أنا أحبه كثيرا يا نهلة كثيرا.. إنه كل شيء بالنسبة لي.. ما أنا فاعله من بعده ؟ أخبريني ماذا أفعل ؟ ماذا ؟ "
و لم أر غير الظلام و السواد الذي غلّف حياتي و بطّنها أسفا على وليد قلبي...
و رغم الآلام و التعب.. و الإعياء الذي أعانيه..ضل النعاس طريقه إلى عينيّ حتى ساعة متأخرة من تلك الليلة المشؤومة...
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
كنت أتمنى الذهاب إلى مكان واسع.. رحيب.. تعبث تيارات الهواء في سمائه بحرية..
إلى البحر.. حيث أرمي بأثقال جسدي و هموم صدري الضائق الحزن...
ألا أنني عدت إلى المنزل الكئيب و جدرانه العائقة.. لأبقى رفيقا لشقيقتي الغاضبة...
كانت في غرفتها، حمدت الله أن لم تسنح الفرصة للقائنا مجددا، فبعد الذي أثارته هذا اليوم، كرهت نفسي و كرهت انتسابي لهذا البيت..
بعدما رحل نوّارعند المغرب، أتتني و مزيج من الشرر و الغضب و الذهول و عدم التصديق يتربع على وجهها..
" سؤال واحد، أجبني عليه.. و بعدها انس أن لك أختا.. يا وليد، قل لي.. أنت.. كنت في السجن ؟؟ "
و تلا السؤال عشرات الأسئلة.. أسئلة بدا أنها عرفت الإجابة عليها من سامر، و الذي بالتأكيد خضع لاستجواب مكثف من قبلها قبل رحيله..
و أسئلة أخرى تهرّبت من الإجابة عليها.. فما رأيته في عينيها من الغضب و الاحتقار كان كاف لقتل أي رغبة في الدفاع أو التبرير في نفسي..
" لا أصدّق ذلك ! أخي أنا.. قاتل خرّيج سجون ؟؟ و أنا من كنت أظنه رجل أعمال كبير درس في الخارج ! أنا من كنت أتباهى بك بين رفيقاتي ..! كيف أواجه خطيبي و أهله بحقيقة خاذلة كهذه ؟ لذلك كنت تتحاشى الحديث عن نفسك ! كم أنا مصدومة بحقيقتك ! "
عندما صوّبت نظري إليها، أشاحت بوجهها الباكي و ركضت إلى غرفتها تواري الألم.. و تدفن الواقع المخزي..
و هاهي الآن.. منعزلة في ذات الغرفة منذ ساعات...
و بدوري، انزويت في غرفة حسام مع حشد من الأفكار الكئيبة.. تولى قيادتها و سيادتها..صغيرتي رغد..
و كلما تذكرت الخوف الذي تملكها و هي تقف أمامي.. أكره نفسي و وجودي و كياني..
إذا لم أكن على الأقل أمثل مصدر الطمأنينة و الأمان لصغيرتي.. فماذا يعني وجودي في هذا الكون ؟؟
ماذا تبقى لي.. ؟ هاقد خسرت أهلي أيضا.. سامر و تشاجرت معه و حطمت قلبه و علاقتي به .. و دانة و وقعت من عينيها و صارت تزدريني.. و رغد.. رغد الحبيبة.. تنفر مني و ترتجف خوفا ؟؟
كيف جعلتها تذعر مني هكذا و تفقد ثقتها بي ؟؟
ما عساها تظن بي الآن ؟؟
أي موقف ستتخذ مني متى عرفت عن سجني و جريمتي ؟؟
هل ستحتقرني مثل دانة ؟؟ لا يا رغد أرجوك ..
فأنا لن أحتمل ذلك أبدا.. و أفضل الموت على العيش لحظة واحدة تنظرين فيها إلي بذرة ازدراء واحدة.. مهما كانت جريمتي و آثامي..
ليتكِ لا تعلمين..
يا رغد.. سامحيني..
ربما لم أعد وليد الذي عرفته و تعلّقت ِ به صغيرة، بفخر و معزّة و ثقة.. لكنني لا أزال وليد الذي يحبك و يتوق إليك.. يهتم بكل شؤونك بهوس...
ليتك ِ تعلمين...
نمت أخيرا على خيال الذكريات الجميلة الماضية.. فهي الشيء الوحيد الجميل في حياتي.. و الذي يمكن لقلبي المنفطر الشعور بالسعادة و الراحة حين تذكره...
فجأة، صحوت من النوم مفزوعا على دوي شديد زلزل الغرفة بما فيها..
فتحت عيني ّ فإذا بي أرى الليل نهارا.. و السواد نارا.. و السكون زلزالا.. و الهدوء ضجيجا عظيما...مهولا..
و أرى الأشياء من حولي تهتز و تقع أرضا و سريري يتذبذب..
للوهلة الأولى لم أستوعب شيئا، أهو كابوس أم ماذا ؟؟
و سرعان ما صدر صوت انفجار مجلجل حرك جدران المنزل...
قفزت من على سريري أترنح مع الاهتزازات، و خرجت مسرعا من الغرفة و إذا بي أرى شقيقتي تأتي مسرعة نحوي و هي تصرخ
" ما هذا ؟ قنابل ! "
و للمرة الثالثة دوي صوت انفجار ضخم و أضيئت الدنيا بشعاع النيران.. و عبقت الأجواء بالدخان و روائح الحريق..
كانت الأرض تهتز من تحتنا فأسرعت بالإمساك بشقيقتي و انبطحنا أرضا.. و شهدنا زجاج النوافذ يتحطم و تقتحم ألسنة النيران المنزل... و تتوزع حارقة كل ما تقع عليه...
اندلع الحريق من حولنا في أماكن متفرقة فجأة.. و توالت أصوات الانفجارات مرة بعد أخرى بعد أخرى .. بشكل متواصل و مندفع ..
شيء ما اخترق السقف فجأة و هوى أرضا، و انفجر...
ركضت أنا و دانة مبتعدين بسرعة عن ذلك الشيء و هي تصرخ... و بدأ السقف يهوي فوق رؤوسنا..
هربنا فزعين مسرعين ناجيين بنفسينا متجهين نحو المدخل.. لا يعرف أحدنا أي تطأ قدماه..
و نحن نعبر الردهة.. توقفت فجأة و صرخت:
" رغد ! "
قفزت قفزا نحو غرفة رغد و صرخت:
" رغد.. رغد "
و دون أن أنتظر فتحت الباب بسرعة واقتحمت الغرفة و لم أر غير النيران تلتهم الأثاث... و تحرق السرير..
" رغد.. "
كاد قلبي يتوقف، بل إنه توقّف، و كدت أسلم نفسي للنيران تلتهمني.. ألا أنني فجأة تذكرت أنها لم تبت هنا الليلة.. و لا أعرف ما الذي دفعني لنسيان أو تذكر هذه المعلومة..هذه اللحظة
صرخات دانة وصلتي رغم الدوي المجلل الطاغي على أي صوت في الوجود، و وجدتها مقبلة نحوي بذعر تقول:
" تهدّم السقف.. سنموت "
ثم نظرت نحو سرير رغد المشتعل نارا و صرخت:
" رغد "
و بدت و كأنها دخلت في نوبة فزع هستيرية، أمسكت بها و قلت:
" ليست هنا، لنخرج فورا "
و عوضا عن التوجه إلى الردهة ثم المخرج، توجهت إلى غرفتي إذ أن فكري قادني تلقائيا إلى مفاتيح السيارة..
سحبتها و سحبت المحفظة التي كانت بجوارها و أطلقت ساقي للرياح، ممسكا بيد شقيقتي الصارخة بذعر..
فتحنا الباب و خرجنا إلى الفناء و خرجت معنا الأدخنة التي نفثها الحريق داخل المنزل... و رأينا السماء تسبح في الدخان، و الليل نهارا ملتهبا..أحمر.. و الحجر يتساقط من حولنا كالمطر.. بينما تعج الدنيا بأصوات انفجارات متتالية.. و تتزلزل الأرض مع كل انفجار..أيما زلزلة
و عندما فتحت الباب الخارجي، رأيت ما لم تره عيناي من قبل.. و لا من بعد..
رأيت النيران مندلعة في كل الأنحاء.. و المنازل تتهدّم.. و الأرض تتصدع و تتشقق.. و الناس.. يركضون في كل الاتجاهات فارين صارخين مذعورين.. يصطدم بعضهم ببعض و يدوس بعضهم بعضا..
و من السماء المشتعلة، كانت تتساقط صواريخ و قنابل أشبه بالشهب و النيازك، ترتطم بأي ما يعترض طريقها، و تدمّره..
لقد كانت المرة الأولى التي أشهد فيها قصفا جويا.. وجها لوجه..
كنا في موعد مع الموت...
وقفت دانة مذعورة فزعة.. ترقب شعلة نارية تهوي من السماء ثم تسقط فوق منزلنا..
شددت على يدها و سحبتها مسرعا إلى خارج المنزل، نحو السيارة.. و نحن حفاة الأقدام و مجردين إلا من لباس النوم..
ما كدت أفتح باب السيارة حتى تفجّر المنزل.. و هطلت الحجارة و الشظايا و الشرار فوق رؤوسنا...
" اركبي بسرعة "
دفعت بشقيقتي إلى داخل السيارة و توجّهت إلى الباب الآخر، ركبت و انطلقت مسرعا مبتعدا عن المنزل.. في عكس اتجاه الطريق، أدوس على الأرصفة اصطدم بكل ما يعترض طريقي، و أحطم كل ما يصادفني..
الشوارع كانت تعج بالناس الفارين من النيران.. إلى النيران.. و القليل من السيارات التي تسير باتجاهات مختلفة عشوائية على غير هدى..
سلكت أسرع طريق يؤدي إلى منزل أبي حسام، غير آبه بالشهب التي ترمي بها السماء من فوقي و من حولي، لا أرى من الأهوال الدائرة من حولي شيئا..
لا أرى إلا صورة رغد مطبوعة على زجاج النافذة أمامي..
كل ذلك كان في دقائق لا أعرف عددها و لا أمدها
وصلت أخيرا إلى منزل أبي حسام و رأيت النار تأكل رأسه...
" رغد... رغد.. لا.. لا.. "
صرخت كالمجنون.. هبطت من السيارة راكضا بوابة سور الحديقة.. ضربته بعنف ٍ حطّم زجاجه ثم فتحته و اقتحمت المنزل و أنا أنادي بأعلى صوتي و بكل جنوني:
" رغد.. رغد.. "
كنت متوجها إلى باب المنزل الداخلي و الذي أراه أمامي مفتوحا... تخرج منه ألسنة النار.. و أنا أناديها بفزع..و رهبة.. مما قد تكون الجدران تخبئه خلفها و الأقدار تخفيه على بعد خطوات..
يا رب لا تفجعني بصغيرتي و احرقني أنا قبل أن تلمس النيران شعرة منها...
يا رب إن كنت اخترتها فأنزل قنبلة فوق رأسي تفجّرني هذه اللحظة قبل أن أدخل و أراها جثة..
" رغد.. رغد.. "
صرخت و صرخت و صرخت.. صراخا شعرت به أقوى و أفظع من دوي القنابل المتفجرة من حولي ..و أنا أركض نحو النيران..
ما كدت أصل إلى الباب حتى سمعت صوت رغد يناديني..
" وليـــــد "
التفت يمنة و يسرة أبحث عن مصدر الصوت كالمجنون.. أدور حول نفسي و أصرخ بقوة:
" رغد... رغد "
و عند زاوية في طرف الحديقة، رأيت رغد و عائلة خالتها جميعا مكومين قرب بعضهم البعض متشابكي الأيدي ينتظرون المصير المجهول..
مع الإضاءة التي أحدثها انفجار قنبلة خارج المنزل، استطعت أن أرى رغد جيدا و هي تقف هناك.. ثم تأتي راكضة مسرعة نحوي.. فأفتح ذراعي و أسرع بالتقافها في حضني، و أطبق عليها بقوّة..
" رغد.. أنت ِ بخير ؟؟ الحمد لله.. الحمد لله "
" وليد .. أنتما حيان ؟؟ "
و التفت للخلف فرأيت شقيقتي تصرخ:
" رغد "
و تتحرر رغد من بين ذراعي و ترتمي في حضن دانة و هي تهتف باكية:
" أنتما حيان.. أنتما حيّان "
جذبت الاثنتين و ضممتهما إلى صدري.. لا أعرف من منا نحن الثلاثة كان أكثر فزعا من الآخرين..
انفجار آخر دوي الأجواء، فانبطحنا أرضا و جعلت الأرض تهز أجسادنا كما تهز أفئدتنا المذعورة..
و أخذ الجميع يتصايح و يصرخ.. و امتزجت الأصوات و الهزات و الاصطدامات..
توقفت النوبة برهة، وقفنا و أنا ممسك بكلا الفتاتين و حثثتهما على السير بسرعة نحو المخرج...
صوت حسام يصرخ:
" إلى أين ؟؟ "
قلت:
" سنغادر المدينة بسرعة "
قال:
" الزم مكانك يا مجنون ! ستقتل "
قلت للفتاتين:
" هيا بنا "
صراخ حسام و عائلته:
" ابقوا مكانكم القصف لم ينته "
لكني مضيت في طريقي..
حسام يصرخ:
" رغد عودي إلى هنا.. عودي يا رغد.."
رغد تتشبث بي أكثر، و أنا أتمسك بيدها بقوة و أمضي بها و بدانة إلى السيارة
بابا السيارة الأماميين كانا مفتوحين، جعلت رغد تدخل بسرعة، و أنا أفتح الباب لدانة و أدخلها سريعا، ثم أقفز نحو باب المقود، فأجلس و أطير بالسيارة حتى قبل أن أغلق الباب..
لم تكن باللحظة التي يستطيع فيها دماغ أي بشر، غبي أو عبقري، أن يفكر..
انطلقت بالسرعة القصوى للسيارة أجتاز كل ما أعبر به، محاولا تحاشي الاصطدام بما يصادفني قدر الإمكان
أرى الناس يخرجون من كل ناحية أفواجا أفواجا ، رجالا و نساء و أطفالا.. متخبطين في سيرهم يركضون باتجاهات عشوائية.. يهيمون على الأرض على غير هدى.. يصرخون و يهيجون و يموجون باعتباط و فوضوية.. و في نواح متفرقة تتناثر مخلفات الدمار .. الحجارة و الأشلاء.. و الجثث.. تحرقها النيران.. و تفوح روائح كريهة لا تستطيع الأنوف إلا استنشاقها مرغمة..
و كلما انفجر شيء جديد، منزل أو مبنى أو شارع أو سيارة.. صرخت الفتاتان و ارتعشت يداي و انحرفت في سيري جاهلا.. أيهما سيكون الأسرع لتحديد مصيرنا .. قنبلة ما ؟ أم اصطدام ما ؟ أم أن النجاة ستكتب لنا بقدرة من لا تفوق قدرته قدرة، و لا يضاهي رحمته رحمة..
كنت أشهد أمامي تصادم السيارات المسرعة، التي فرت من الموت.. و إليه
و أرى أشياء ترتطم بزجاج سيارتي و تحدث تصدعات و كسور تحول دون وضوح الرؤية أمام عيني..
لم يكن باستطاعتي إلا الاستمرار في طريقي اللا محدد .. و كما تسير الحية سرنا ذات اليمين و ذات الشمال ننعطف كلما ظهر شيء أمامنا و نسلك كل تشعب نلقاه حتى انتهى بنا الطريق إلى شارع رئيسي...
حانت مني الآن التفاتة أخيرا إلى اليمين.. فرأيت الفتاة الجالسة إلى جانبي و قد انثنت بجدعها إلى الأمام حتى لامس رأسها ركبتيها و وضعت ذراعيها على جانبي رأسها لتحاشي رؤية أو سماع شيء.. بينما أنفاسها الباكية اللاهثة تكاد تلهب قدمي ّ الحافيتين..
" رغد.. "
لم تغير من وضعها ..
التفت إلى الوراء لألقي نظرة على دانة، فوجدتها هي الأخرى مكبة على وجهها تحتضن المقعد المجاور و تنوح و تصرخ ..
" يا رب.. يا رب.. يا رب.. "
هتفت بأعلى صوتي:
" يا رب.. يا رب.. يا رب "
هتفت رغد بصوتها المبحوح المرتجف:
" يا رب.. يا رب.. يا رب "
لم يكن لدينا أمل في النجاة إلا برحمة الله..
أسير في الشارع بسرعة جنونية دون هدف.. وسط قصف جوي مباغت.. و القنابل و الصواريخ تهوي من السماء كالوابل.. و الأرض تتزلزل من تحتي.. و معي فتاتان مذعورتان تصرخان بفزع و هلع.. و النيران تحاصرني و تحيط بي من جميع الاتجاهات... وسط ليلة غدر عجت سماؤها بألسن النار و الشر.. مخلفا منزلا محترقا متهدما.. و مستقبـِلا مصيرا مجهولا غامضا..
كم من الوقت مضى.. لا أعرف
كم من المسافة قطعت ؟ لا أعرف ..
ألا زالت الفتاتان على قيد الحياة ؟
لا أعرف
أنجونا من الموت ؟
أيضا لا أعرف...
الشيء الذي ألاحظه هو أنني في وسط طريق بري.. و لم أعد أرى السماء متوهجة.. و لم أعد أحس بالأرض ترتعد كما لم أعد أسمع الدوي و لا الضجيج...
" رغد.. دانة.. "
لم تجب أي منهما...
" رغد.. دانة أتسمعانني ؟؟ "
و أيضا لم تردا..
هلعت، رفعت يدي اليمنى عن المقود و مددتها نحو رغد التي لا تزال على نفس الوضع..
" رغد صغيرتي.. ردي علي.. "
ببطء تحركت رغد حتى استوت جالسة و هي تخفي وجهها خلف يديها خشية النظر .. و شيئا فشيئا فرّقت ما بين أصابعها و سمحت لنظرة منها للتسلل إلى المحيط و رؤية ما يجري..
" لقد ابتعدنا.. أأنتِ بخير ؟؟ "
نظرت رعد غير مصدقة.. إلى الشارع .. إلى السماء.. إلى الطريق من أمامنا .. إلى دانة من خلفنا.. و إلي..
لم تستطع النطق بأي كلمة.. عادت تنظر إلى الوراء تريد أن تنادي دانة الدافنة وجهها في المقعد المجاور .. ألا أنها عجزت عن ذلك..
نظرت أنا إلى دانة و هتفت بصوت عال:
" دانة.. عزيزتي.. اجلسي أرجوك "
دانة لفت برأسها إلينا و جعلت تنقل بصرها بيننا ..
ثم جلست و نظرت عبر النافذة المغلقة ثم قالت:
" أين نحن ؟؟ "
قلت و أنا أنظر إليها عبر المرآة:
" الله أعلم "
قالت:
" أين نذهب ؟؟ "
قلت:
" الله أعلم.. فقط لنبتعد عن منطقة الخطر.. "
نظرت إلى الوراء ثم إلي و قالت:
" هل سننجو ؟ "
أنى لي أن أتنبّأ ؟؟
الله الأعلم..
دانة اقتربت من مسند مقعدي حتى التصقت به و مدت يدها عبر الفتحة بين المقعدين إلى ذراعي تمسك به و تصيح:
" هل هذه حقيقة ؟؟ وليد هل أنا أحلم ؟؟ ألا زلت نائمة ؟؟ هل مت ّ ؟؟ هل أنا حية ؟؟ "
رفعت يدي فأمسكت بيدها،إن لأواسها أو لأطلب منها المواساة .. و كم كانت باردة كالثلج...
" وليد "
هذه كانت رغد التي تنظر إلي ربما طالبة المواساة و الأمان هي الأخرى.. ثم ضمّت يدها إلى أيدينا و دخلتا في نوبة طويلة و قوية من البكاء و النواح..
لقد كنت أنا أيضا بحاجة للبكاء مثلهما.. فما رأيت كان من الفظاعة و الشناعة ما يجعل الجبال الصخرية تخر منهارة..
ألا أن الدموع ستحول دون الرؤية أمامي، و أنا أقود وسط الظلام بسرعة رهيبة..
تماسكت و ركزّت على الطريق..
فجأة.. قالت دانة:
" نوّار ! "
ثم أخذت تلطم على وجهها و تنوح..
" يا إلهي ماذا جرى لنوّار ؟؟ "
و نظرت إلي و هي تسأل:
" الهاتف ؟؟ "
و لكن الهاتف لم يكن معي...
إننا نفذنا بجلودنا و الله العالم بما حلّ بمن بقي في المدينة..
لم تهدأ من نوبة النواح إلا بعد زمن... أظن القنوط غلبها و استسلمت لما يخبئه لنا القدر
انتبهت الآن إلى عبوة لمشروب غازي موضوعة إلى جانبي، و كنت قد اشتريتها يوم أمس أثناء تجولي بالسيارة ثم لم أشربها.. مددت يدي إليها و لمست حرارتها التي استمدتها من حرارة السيارة..
خففت السرعة و أخذت العبوة و فتحتها بيدي اليمنى، ثم مددتها نحو رغد..
" اشربي "
إذ لا بد أن حلوقنا جميعا جافة متخشبة من هول ما مررنا به..
رغد أمسكت العبوة بكلتا يديها و قربتها من فمها و رشفت مقدار ما رطب جوفها و أعادتها إلي..
" دانة.. خذي اشربي "
مدت دانة يدها و تناولت العلبة و شربت منها ثم أعادتها إلي .. و جاء دوري لأشرب..
كان ساخنا غير مستساغ المذاق ألا أن العطش اضطرنا لازدراده عن آخره دون تذوق.
ساعة السيارة كانت تشير إلى الثالثة و الأربعين دقيقة فجرا.. عندما رأيت أضواء أمامي... و طابور من السيارات الواقفة خلف بعضها البعض.. ظهر لي أنها نقطة تفتيش أو ما شابه..
خففت السرعة تدريجيا حتى انضممت إلى طابور السيارات.. و بدأ القلق يزداد بسرعة في نفسي و نفسي الفتاتين..
بدأ الطابور يتحرك ببطء.. لا يتناسب و تسارع نبض قلبي و أنفاسي..
و أخيرا حان دوري..
فتحت نافذة بابي فقرّب الشرطي رأسه منها و طلب البطاقة و الاستمارة و رخصة القيادة
بعدها بدأ بطرح الأسئلة.. عن مكان قدومي و وجهتي..
" لقد فررت بعائلتي من المدينة الصناعية... حيث القصف المباغت.. سأنزل أقرب مكان آمن.. "
و يبدو أنها كانت إجابة معظم من في السيارات السائرة قبلي..
" من معك ؟ "
" شقيقتي و ابنة عمّي "
" ألديك بطاقتيهما ؟ "
" لا، لم أفكر في إحضار شيء كهذا فقد نفذنا بجلودنا فقط "
الشرطي أطل برأسه من النافذة ناظرا نحو من يركب السيارة معي.. ثم طلب مني إيقاف السيارة جانبا و النزول.
ركنت السيارة جانبا، و هممت بالنزول.. الفتاتان هتفتا في وقت واحد:
" وليد "
بخوف و وجل..
إن نسيتم فسأذكركم بأنني أرتعد خوفا من الشرطة و العساكر.. بعد الذي لاقيته في السجن تلك السنين.. و إن كنت سأطمئن الفتاتين فإن على أحدهم طمأنتي بادىء ذي بدء..
قلت بصوت مضطرب :
" لا تقلقا.. سأرى ما يريدون "
نزلت من السيارة و وطأت قدماي الحافيتين الشارع.. و ذهبت إلى حيث كان رجال الشرطة يقفون مع مجموعة من سائقي السيارات المركونة إلى جانب سيارتي..
الجو كان باردا و كذلك الأرض.. لكن رعدة جسدي الحقيقية كانت من أثر القصف و منظر رجال الشرطة المهاب..
هناك، استجوبني الرجال و دونوا المعلومات ثم طلبوا مني فتح السيارة لتفتيشها
عدت إلى السيارة و معي اثنان منهم بعد قرابة العشرين دقيقة.. و فتحت الباب المجاور لرغد أولا و قلت:
" يريدون تفتيش السيارة، اهبطا "
لم تتحرك الفتاتان مباشرة، ثم هبطت رغد حافية القدمين أيضا و وقفت إلى جواري مباشرة و حين فتحت الباب الخلفي لدانة أبت الخروج.. و أشارت إلى شعرها..
لم تكن دانة ترتدي الحجاب مثل رغد...
نظرت من حولي فلم أجد شيئا أغطي به رأس شقيقتي.. فضلا عن قدميها.. فيما الشرطيان يقفان على مقربة و الناس من حولي كثر..
نزعت قميص بذلة نومي و قدّمته لها لتختمر به.. و بعدما نزلت التصقت بي من جهة بينما رغد من الجهة الأخرى..
أمسكت بيدي الفتاتين و سرت مبتعدا عن السيارة بعض الشيء لأفسح المجال لرجلي الشرطة للتفتيش.
بعد فراغهما من المهمة سألتهما:
" أيمكننا الذهاب ؟؟ "
قال أحدهما:
" ليس بعد. فمغادرة هذه المنطقة محظورة لحين إشعار آخر "
ثم أشار إلى الناحية الأخرى من الشارع و قال :
" ابقوا هناك.."
نظرت إلى تلك الناحية فرأيت مجموعة من الناس الذين أوقفهم رجال الشرطة مثلنا يقف بعضهم و يجلس البعض الآخر على حافة الشارع، متفرقين..
شددت الضغط على يدي الفتاتين و عبرت الشارع معهما تطأ أقدامنا الحافية العارية الأرض الجرداء و تستقبل أجسادنا تيارات الهواء البارد فتقشعر..و يزداد اقترابنا من بعض و تشبثنا ببعض والناس في شغل عن النظر إلينا..بأنفسهم و ذويهم ..و إلى السماء يرتفع البكاء و العويل و الصراخ و النواح.. من كل جانب.. و إليها أرفع بصري فأرى بدر الليلة السادسة عشر من شهر الحج يشهد فاجعة شعب غدر به عدّوه و انتهك حرمته في غفلة من أعين الناس.. و عين الله فوق كل عين ٍ شاهدة ٍ.. شاهدة.
]]] يتبع ]]]
___</font>
مواقع النشر (المفضلة)