<font color='#000000'>... تتمة ...










بعدها جاء سامر يخبرني بأن سيف قد حضر ...




كان سامر يبتسم ، و إن بدت من نظراته علامات القلق ... خصوصا و هو يرى الوجوم الغريب على وجهي الذي كان مشرقا طوال النهار




ذهبت معه إلى حيث كان سيف و والدي يجلسان و يتبادلان الأحاديث ...



لابد أن الجميع قد لاحظ شرودي ... و عدم إقبالي على الطعام ، على عكس وجبة الغذاء التي التهمت حصتي منها كاملة تقريبا




" ما بك لا تأكل يا وليد ؟ كُلْ حتى تسترد الأرطال التي فقدتها من جسمك &#33; "



أجبت ببرود و بلادة :


" اكتفيت "




و بعد العشاء جلسنا في غرفة الضيوف نشرب الشاي ، و كانوا هم الثلاثة ، أبي و سامر و سيف ، في قمة السعادة و يتبادلون الأحاديث و الضحك ...



أما تفكيري أن فكان متوقفا و جامدا عند اللحظة التي قال فيها آخي :

( نحن مخطوبان )





بعد ساعة ، استأذن سيف للانصراف و أخذ يصافح الجميع و حين أقبل نحوي قلت :

" سأذهب معك "





أبي و سامر تبادلا النظرات ثم حدقا بي ، كما يفعل سيف ... و قالا سوية و باستغراب :


" ماذا ؟؟ "




و أنا لا أزال ممسكا بيد سيف و ناظرا إليه أجبت :


" إذ لا سرير لي هنا ... "


و توقفت قليلا ثم تابعت :


" و لا أريد ترك صديقي وحيدا "






كان سيف يعتزم السفر بعد يوم آخر ، لينال قسطا أوفر من الراحة بعد مشقة الرحلة الطويلة التي قطعناها ...



و انتهى الأمر بأن خرجت معه دون أن أودع غير والدي ، و سامر ...





في السيارة بعد ذلك ، فتحت الخزانة الأمامية و استخرجت علبة السجائر التي كنت قد دسستها بداخلها أثناء تجوالنا


و فتحت النافذة ، ثم أشعلت السيجارة و التفت إلى سيف و قلت :


" أتسمح بأن أدخن ؟؟ "




صديقي سيف لم يكن من المدخنين ، أومأ برأسه إيجابا و فتح نافذته ، و انطلق بالسيارة ...




بقيت صامتا شاردا طوال المشوار ، و لم يحاول سيف خلخلة صمتي بأي كلام





بعد فترة ، و نحن نقف عند الإشارة الأخيرة قبل المبنى حيث نسكن ، و فيما أنا في شرودي و دهليز أفكاري اللانهائي ، قال سيف :



" متى بدأت تدخن ؟؟ "



لم أجبه مباشرة ، ليس لأنني لم أسمعه أو أستوعب سؤاله ، بل لأن لساني لم يكن يدخر أي كلام ...






" السجن يعلّم الكثير ... "


قلت ذلك و ابتسمت ابتسامة ساخرة باهتة شعرت بأن سيف قد رآها رقم تركيزه على الطريق ...


تذكرت لحظتها تلك الأيام ...

و أولئك الزملاء في السجن ...

لماذا أشعر بهم الآن حولي ؟؟

كأني أشم راحة الزنزانة &#33;

ربما أثارت رائحة السيجارة تلك الذكريات السوداء &#33;

و هل يمكن أن أنساها ؟

و هل يعقل أن تختفي و أنا لم أبتعد عنها غير أيام فقط ...؟؟

ليتهم ...

ليتهم قتلوني معك يا نديم ...

ليتنا تبادلنا الأرواح ...

فمت ُّ أنا

و بقيت أنت ... و خرجت لتعود لأهلك و بلدك و أحبابك ...

أنا ... لا أهل لي و لا بد ...

و لا أحباب ...






لمحت الإشارة تضيء اللون الأخضر و أنا أسحق سيجارتي في ( الطفاية)

ثم انطلق وليد بالسيارة ...




أنوار كثيرة كانت تسبح في الظلام ...

مصابيح السيارات القادمة على الطريق المعاكس

مصابيح المنازل

مصابيح الشارع ...

لافتات المحلات الضوئية

نور على نور على نور ...

كم هو أمر مزعج ... لم أعد أرغب في رؤية شيء ...

أتمنى ألا تشرق الشمس يوم الغد ...

أتمنى ألا يعود الغد ...

أتمنى ... ألا أذكر رغد ...




كانت المرة الثانية في حياتي ، التي تمنيت فيها لو أن رغد لم تخلق ...








عندما دخلنا الشقة، و هي مكونة من غرفة نوم و صالة صغيرة و زاوية مطبخ و حمام واحد ... أسرعت الخطى نحو غرفة النوم و دون أن أنير المصباح دخلت و ألقيت بجسدي المخدر أثر صدمة النبأ على أحد السريرين ...




ثوان ، و إذا بسيف يقبل و يشعل المصباح



" كلا .. أرجو أطفئه "



قلت ذلك و أنا ارفع يدي ثم أضعها فوق عيني المغمضتين لأحجب عنهما النور ...



سيف بادر بإطفاء المصباح و بقي واقفا برهة ... ثم أقلق الباب و أحسست به يتقدم ... ثم يجلس فوق السرير الآخر و الموازي لسريري ...





ساد السكون لبعض الوقت ، إلا من ضوضاء تعشش في رأسي بسبب الأفكار التي تتعارك في داخله ...



" ماذا حدث ؟؟ "



سألني سيف بصوت هادئ منخفض ...



لم أجبه ... و مرت دقائق أخرى فاعتقدت أنه حسبني قد دخلت عالم النيام ... لكنه عاد يقول :


" أخبرني ... ، إنك لست على ما يرام "



بعد ذلك أحسست بحركته على السرير المجاور و بصوته يقترب أكثر ...


" وليد ؟؟ "



الآن فتحت عيني قليلا و لدهشتي رأيه يقف عند رأسي و يحدق بي ...


الظلام كان يطلي الغرفة بسواد تام ، إلا عن إضاءة بسيطة تتسلل بعناد من تحت الباب

و يبدو إنها كانت كافيه لتعكس بريق الدموع التي أردت مواراتها في السواد .





لحظة من لحظات الضعف الشديد و الانهيار التام .. توازي لحظة تراقُص الحزام في الهواء ... ثم سكونه النهائي على الرمال ... إلى حيث لا مجال للعودة أو التراجع ... فقد قضي الأمر ...



جلست ، ليست قوتي الجسدية هي التي ساعدتني على النهوض ، و لا رغبتي الميتة في الحراك ، بل الدموع التي تخللت تجويف أنفي و ورّمت باطنه و سدت المعبر أمام أنفاسي البليدة البطيئة ... و كان لابد من إزاحتها ...



تناولت منديلا من العلبة الموضوعة فوق المنضدة الفاصلة بين السريرين و جعلت أعصف ما في جوفي و صدري و كياني ... خارجا



إلى الخارج ...

يا دموعي و آلامي

يا أحزاني و ذكرياتي الماضي

إلى الخارج يا حبي و مهجة قلبي

إلى الخارج يا بقايا الأمل

إلى الخارج يا روحي ...

و كل ما يختزن جسمي من ذرات الحياة ....

و إلى الخارج ...

يا اعترافات لم أكن أتوقع أنني سأبوح بها ذات يوم ... لأي إنسان ...



" هل واجهت مشكلة مع أهلك ؟؟ ... بالأمس كنت ... كنت َ ... "

و صمت ...

فتابعت أنا مباشرة :



" كنت ُ أملك الأمل الأخير ... و قد ضاع و انتهى كل شيء ...


إنني لم أعد أرغب في العودة إليهم &#33; سأرحل معك يا سيف "




قلت ذلك و كانت فكرة وليدة اللحظة ، ألا أنها كبرت فجأة في رأسي و احتلت عقلي برمته ، ففتحت عيني و حملقت في الفراغ الذي خلقت منه هذه الفكرة ثم استدرت نحو سيف و قلت :



" أنا عائد معك إلى مدينتنا &#33; "



طبعا سيف تفاجأ و لم يكن الظلام ليسمح لي برؤية ظاهر ردود فعله أو سبر غورها

سمعته يقول :


" ماذا ؟ &#33; "


قلت مؤكدا :


" نعم &#33; سأذهب معك ... فلم يعد لي مكان أو داع هنا "



سيف صمت ، و لم يعلق بادئ الأمر ، ثم قال :



" أما حدث ... كان سيئا لهذا الحد ؟؟ "



و كأن جملته كان شرارة فجرّت برميل الوقود ...



ثرت بجنون ، قفزت من سريري مندفعا هائجا صارخا :


" سيئا فقط ؟؟ بل أسوأ ما يمكن أن يحدث على الإطلاق ... إنها خيانة &#33; إنهما خائنان ... خائنان ... خائنان "



مشيت بتوتر و عصبية أتخبط في طريقي ... أبحث عن أي شيء أفرغ فيه غضبي بلكمة قوية من يدي لكنني لم أجد غير الجدار ...


و هل يشعر الجدار ؟؟


آلام شديدة شعرت أنا بها في قبضة يدي أثر اللكمة المجنونة نحو الجدار ، و استدرت بانفعال نحو سيف الذي ظل جالسا على السرير يراقبني بصمت ...


" لقد سرقوا رغد مني &#33; "




لأن شيئا لم يتحرك في سيف استنتجت أنه لم يفهم ما عنيته ... قلت :



" أعود بعد ثمان سنوات من العذاب و الألم ... و الذل و الهوان الذي عشته في السجن بسبب قتلي لذلك الحقير الذي أذاها ... ثمان سنوات من الجحيم ... و المرارة ... و الشوق ... فقدت فيها كل شيء سوى أملى بالعودة إليها هي ... أعود فأجدها ... "


و سكت


لأنني لم أقو على النطق بالكلمة التالية ...


و درت حول نفسي بجنون ، ثم تابعت ، و قد خرجت الكلمة من فمي ممزوجة بالآهة و الصرخة و الحسرة :



" أجدها مخطوبة ؟؟ "




هنا وقف سيف ...


ألا أنني لم أكن قد انتهيت من إفراغ ما لدي


قلت بصوت صارخ جاد مزمجر :


" و لمن ؟؟ لأخي ؟؟؟ أخي ؟؟؟ "





حتى لو كانت الغرفة منارة لم أكن لأستطيع رؤية شيء وسط انفعالي الشديد ساعتها ...


لذا لا أعرف كيف كانت تعابير وجه سيف ...


و لكن بإمكاني رؤية خياله واقفا هناك ...



اندفعت كلماتي مقترنة بدموعي و زفيري القوي و صوتي الأجش المجلل ... و أنا أقول :



" لو كان ... لو كان شخصا آخر ... أي شخص ... لكنت قتلته و محوته من الوجود ... لكنه أخي ... أخي يا سيف ... أخي ...
كيف تجرأ على سرقتها مني ؟؟
كيف فعلوا هذا بي ؟؟
أهذا ما أستحقه ؟؟
ليتني لم أخرج من السجن
ليتني مت هناك
ليتني أفقد الذاكرة و أنسى أنني عرفتها يوما
الخائنة ...
الخائنة ...
الخائنة ... "



و انتهيت جاثيا على الأرض في بكاء شديد كالأطفال ...




" لقد أطعمتك بيدي ... كيف تفعلين هذا بي يا رغد ؟؟ أنا قتلته انتقاما لك أنت ...
أيتها الخائنة ... أكان هذا حلمك ...؟
اذهبي بأحلامك إلى الجحيم ... "



و أدخلت يدي إلى جيبي ، و أخرجت منه الصورتين اللتين رافقتاني و لازمتاني لثمان سنين ، لستين دقيقة من كل ساعة من كل يوم ...



أخرجتهما و أخرجت معهما القصاصة التي وجدتها تحت باب غرفتي ...


لم أكن أرى أيا مما أخرجت ، و لكن يدي تحس ... و تدري أيها صورة رغد ... فلطالما أمسكت بالصورة و احتضنتها في يدي لساعات و ساعات ...


الدموع بللت الصورتين و كذلك الورقة ...



" أيتها الخائنة ... اذهبي و أحلامك إلى الجحيم ... "



و قبل أن أتردد أو أدع لعقلي المفقود لحظة للتفكير ...


مزقت الورقة ... إربا إربا ...


و رميت بها في الهواء ...


و مزقت صورة رغد ... قطعة قطعة ... و بعثرتها في الفراغ ... إلى حيث تبعثرت آخر آمالي و أحلامي ...

و انتهت آخر لحظات حبي الحالم ...

و تلاشت آخر ذرات غبار الماضي ...

و لم يبق لي ...

غير حطام قلب ٍ منفطر ...




]]] يتبع ]]]</font>