<font color='#000000'>... تتمة ...
فيما كنت أسخن بعض الفاصوليا على لهيب الموقد في المطبخ ، حضر صديقي سيف .
لم أكن أتوقع زيارته ،كانت الساعة السادسة مساءا ، لكنني سررت بها
" تفضل ! إنني أعد بعض الفاصوليا ... عشاء مبكر ! ستشاركني فيه "
قلت ذلك و أنا أقوده إلى المطبخ ...
حينما وصل و شم رائحة الفاصوليا قال بمرح :
" تبدو شهية ! سأتناول القليل فقط ، فلدي ضيوف على العشاء هذا المساء "
وضعت مقدارين منها في طبقين صغيرين ، مددت بأحدهما نحو صديقي و قلت :
" جرب طهو ـ أو بالأحرى تسخين يدي ! "
تناول سيف بعضها و استساغ الطعم ... ثم قال :
" لكنها لا تقارن بأطباق والدتي ! يجب أن تشاركنا العشاء الليلة يا وليد "
ابتسمت ابتسامة باهتة ، و لم أعلق ...
" هيا يا وليد ! سأعرفك على زملائي و أصدقائي في العمل "
قلت :
" كلا لا يمكنني ، لدي ارتباطات أخرى "
سيف نظر إلي باستنكار ...
" أية ارتباطات ؟؟! "
ابتسمت و قلت :
" سآخذ الأطفال إلى الملاهي ! فقد وعدتهم بذلك "
سيف كان يحرك الملعقة باتجاه فمه ، فتوقف في منتصف الطريق و قال :
" أي أطفال ؟؟ "
قلت بابتسام و أنا أقلب الفاصوليا في الطبق لتبرد قليلا :
" رغد و دانة و سامر ! سأجعلهم يستمتعون بوقتهم ! "
أعاد سيف الملعقة و ما حوت على الطبق ... و ظل صامتا بضع ثوان ...
" ما بك ؟ ألم يعجبك ؟ "
أعني بذلك الفاصوليا
سيف تنهد ثم قال :
" وليد ... ما الذي تهذي به بربك ؟؟ "
تركت الملعقة تنساب من يدي ، و قد ظهرت علامات الجدية على وجهي الكئيب و قلت :
" أتخيل أمورا تسعدني ... و تملأ فراغي ... "
هز سيف رأسه اعتراضا ، و قال :
" ستصاب بالجنون إن بقيت هكذا يا وليد ! بل إنك أصبت به حتما ... ينبغي أن تراجع طبيبا "
دفعت بالكرسي للوراء و أنا انهض فجأة و استدير موليا سيف ظهري ...
سيف وقف بدوره ، و تابع :
" لا تفعل هذا بنفسك ... أتريد أن تجن ؟؟ "
استدرت إلى سيف ، و قلت :
" ما الفرق ؟ لم يعد ذلك مهم "
" كلا يا وليد ... لا تعتقد أن الدنيا قد انتهت عند هذا الحد ... لا يزال أمامك المستقبل و الحياة "
قاطعته بحدّة و زمجرت قائلا :
" المستقبل ؟؟ نعم المستقبل ... لرجل عاطل عن العمل متخرج من السجن لا يحمل سوى شهادة الثانوية المؤرخة قبل ثمان سنين ! و يخبئ بعض النقود التي استعارها من أبيه في جيب بنطاله ليشتري بها الفاصولياء المعلبة فيسد بها جوعه ... نعم إنه المستقبل "
سيف بدأ يتحدّث بانفعال قائلا :
" تعرف أن فرص العمل في البلد ضئيلة بسبب الحرب ، لكنني سأتدبر الأمر بحيث أتيح الفرصة أمامك للعمل معي ... "
قلت بسرعة :
" معك ؟ أم عندك ؟؟ "
استاء سيف من كلمتي هذه و همّ بالانصراف .
استوقفته و قدمت إليه اعتذاري ...
لقد كان اليأس يقتلني ... و لا شيء يثير اهتمامي في هذه الدنيا ...
قال سيف :
" المزيد من الصبر ... و سترى الخير إن شاء الله "
ثم تقدّم نحوي و قال :
" و الآن ... تعال معي ... فالأشخاص الذين سيتناولون العشاء معنا سيهمك التعرف إليهم "
لكنني رفضت ، لم أشأ أن أظهر أمام رجال الأعمال و أحرج صديقي ، لكوني شخص تافه خرج من السجن قبل أسابيع ...
" كما تشاء ... لكنك ستحضر غدا ! عشاء خاص بنا نحن فقط ! "
أومأت إيجابا ، إكراما لهذا الصديق الوفي ...
قال سيف :
" يا لك من رجل ! لقد أنسيتني ما جئت لأجله ! "
" ما هو ؟؟ "
" تلقيت اتصالا من والدك اليوم ، يريد منك أن تهاتفه للضرورة "
شعرت بقلق ، فلأجل ماذا يريدني والدي ؟؟
" أتعرف ما الأمر ؟؟ "
" لا فكرة لدي ، لكن عليك الاتصال بهم فورا "
و أشار إلى الهاتف المعلق على الجدار ...
قلت :
" الخط مقطوع ! "
" حقا ؟؟ "
" كما كانت الكهرباء و المياه أيضا ! تصور أنني عشت الأيام الأولى بلا نور و لا ماء ! "
ضحك سيف ثم قال :
" معك أنت يمكنني تصور كل شيء ! هل تريد هاتفي المحمول ؟ "
" لا لا ، سأتصل بهم من هاتف عام "
سار سيف نحو الباب مغادرا ، التفت قبل الانصراف و قال :
" موعدنا غدا مساءا ! "
" كما تريد "
و عدت إلى طبقي الفاصوليا التي بردت نوعا ما ، و أفرغتهما في معدتي ...
لم يكن في المنزل أي طعام ، و كنت اشتري المعلبات و التهم منها القدر الذي يبقيني حيا ...
تعمدت عدم الاتصال بأهلي طوال الأسابيع الماضية ، و عشت مع أطيافهم داخل المنزل
حاولت البحث عن عمل و لكن الأمر كان أصعب من أن يتم في غضون بضع أسابيع أو أشهر ...
في ذلك المساء ذهبت إلى أحد المحلات التجارية لشراء بعض الحاجيات ، قبل أن أجري المكالمة الهاتفية .
حين حان دوري للمحاسبة ، أخذ المحاسب يدقق النظر إلي بشكل غريب !
نظرت إليه باستغراب ، فقال :
" ألست وليد شاكر ؟؟ "
فوجئت ، فلم يبد لي وجه المحاسب مألوفا ... قلت :
" بلى ... هل تعرفني ؟؟ "
قال :
" و هل أنساك ! متى خرجت من السجن ؟؟ "
عندما نطق بهذه الجملة أثار اهتمام مجموعة من الزبائن فأخذوا ينظرون باتجاهي ...
شعرت بالحرج ، و تجاهلت السؤال ... فعاد المحاسب يقول :
" ألم تعرفني ؟ لقد كنت ُ زميلا للفتى الذي قتلته ! عمّار "
أخذ الجميع ينظر باتجاهي ، و شعرت بالعرق يسيل على صدغي ...
جاء صوت من مكان ما يقول :
" أ تقول أن المجرم قد خرج من السجن ؟؟ "
تلفت من حولي فرأيت الناس جميعا ينظرون إلي بعيون حمراء ، يقدح الشرر من بعضها ، و ينطلق الازدراء من بعضها الآخر ...
شعرت بجسمي يصغر ... يصغر ... يصغر ... ثم يختفي ...
خرجت من المكان بسرعة ... دون أن آخذ حاجياتي ، و ركبت سيارتي و انطلقت مسرعا تشيعني أنظار الجميع ...
لقد أصبحت ذا سمعة سيئة تشير إلي أصابع الناس بلقب مجرم ...
توقفت عند أحد الهواتف العامة ، و اتصلت بمنزل عائلتي في المدينة الأخرى ...
كانت الساعة حينئذ الحادية عشر ... و رن الهاتف عدة مرات و لم يجب أحد ...
و أنا واقف في مكاني أراقب بعض المارة ، تخيلتهم ينظرون إلي و يتحدثون سرا ...
ربما كانوا يقولون : إنه وليد المجرم !
و مرت مني سيارة شرطة تسير ببطء ...
شعرت برعشة شديدة تسري في جسدي لدى رؤيتها ، كانت النافذة مفتوحة و أطل منها الشرطي و أخذ ينظر باتجاهي
كدت أموت فزعا ... و تخيلته مقبلا نحوي ليقبض علي و يزج بي في السجن من جديد ...
شعور مرعب مفزع ...
ظلت يدي تضغط على أزرار عشوائية ، تتصل ربما بالمريخ أو المشتري ، دون أن أملك القدرة على التحكم بها ... حتى ابتعدت السيارة شيئا فشيئا و استعدت بعض الأمان ...
أعدت الاتصال بمنزل عائلتي و بعد ثلاث رنات أو أربع ، أجاب الطرف الآخر ...
" نعم ؟ "
لم أميز الصوت في البداية ، لكنه عندما كرر الكلمة أدركت أنها كانت رغد ...
" نعم ؟ من المتحدث ؟؟ "
كان فكي الأسفل لا يزال يرتجف أثر رؤية سيارة الشرطة ... و ربما سمعت رغد صوت اصطكاك أسناني بعضها ببعض ...
قربت السماعة من فمي أكثر ، و بيدي الأخرى أمسكت بفكي و طرف السماعة كمن يخشى تسرب صوته للخارج ...
ربما سمع رجال الشرطة صوتي و عادوا إلي !
قلت :
" أنا وليد "
لم أسمع أي صوت فظننت أن الطرف الآخر قد أقفل السماعة ، قلت :
" رغد ألا زلت معي ؟؟ "
" نعم "
ارتحت كثيرا لسماع صوتها
أو ربما ... تعذبت كثيرا ...
" وليد كيف حالك ؟ "
" أنا بخير ، ماذا عنكم ؟ "
" بخير . كنت أنتظرك ، أقصد كنا ننتظر اتصالك "
قلت بقلق :
" ما الأمر ؟؟ "
رغد قالت :
" لقد نام الجميع ، والدي يريد التحدث معك ، يجب أن تحضر "
أقلقني حديثها أكثر ، سألت :
" ما الخطب ؟؟ "
" إنه موضوع زواج دانه ! لن أخبرك بالتفاصيل و إلا وبختني ! يجب أن تحضر قبل مساء الأربعاء المقبل "
كان أمرا فاجأني ، و هو أكبر من أن أناقشه مع رغد و رغد بالذات على الهاتف في مثل هذا الوقت ... و المكان ...
لذا اختصرت المكالمة بنية الاتصال نهار اليوم التالي لمعرفة التفاصيل ...
" حسنا ، سأتصل غدا ... إلى اللقاء "
" وليد ... "
حينما سمعت اسمي على لسانها ارتجف فكي أكثر مما كان عند رؤية سيارة الشرطة ....
خرجت الكلمة التالية مبعثرة الحروف ...
" نـ ... ـعم ... صـ ... ـغيـ ... ـرتي ؟؟ "
" عد بسرعة ! "
و التي عادت بسرعة هي ذكريات الماضي ...
و الذي طردها بسرعة هو أنا
لم أكن أريد لشيء قد مات أن يعود للحياة ...
قلت :
" سأرى ، وداعا "
و بسرعة أيضا أغلقت السماعة ...
كم شعرت بقربها ... و بعدها ...
حينما عدت إلى المنزل ، وقفت مطولا أمام غرفة رغد أحدق ببابها ... حتى هذه اللحظة لم أجرؤ على فتحها هي بالذات من بين جميع غرف المنزل الموحش ...
دخلت إلى غرفتي الغارقة في الظلام ، و تمددت على سريري بهدوء ...
( عد بسرعة ... عد بسرعة ... عد بسرعة ... )
ظلت تدور برأسي حتى حفرت فيه خندقا عميقا !
سمعت طرقا على الباب ... طرقا خفيفا ... جلست بسرعة و ركزت نظري ناحية الباب ... كان الظلام شديدا ...
شيئا فشيئا بدأ الباب ينفتح ... و تتسلل خيوط الضوء للداخل
و عند الفتحة المتزايدة الحجم ، ظهرت رغد !
رغد وقفت تنظر إلي و وجهها عابس ... و الدموع منحدرة على خديها الناعمين ...
هتفت ...
" رغد ! "
بدأت تسير نحوي بخطى صغيرة حزينة ... مددت ذراعي و ناديتها :
" رغد تعالي ... "
لكنها توقفت ... و قالت :
" وليد ... عد بسرعة "
ثم استدارت عائدة من حيث أتت
جن جنوني و أنا أراها تغادر
قفزت عن سريري و ركضت باتجاهها و أنا أهتف :
" رغد انتظري ...
رغد لقد عدت ...
رغد لا تذهبي "
لكنني عندما وصلت إلى الباب كانت قد اختفت ...
أسرعت إلى غرفتها أطرق بابها بعنف ...
كدت أكسره ، أو أكسر عظامي ... لكنه ظل موصدا ...
كما هي أبواب الدنيا كلها أمام وجهي ...
أفقت من النوم مذعورا ، فوجدت الغرفة تسبح في الظلام و الباب مغلق ...
لم يكن غير كابوس من الكوابيس التي تطاردني منذ سنين ...
و رغم انها تعذبني ، ألا أنها تمنحني الفرصة لرؤية صغيرتي التي حرمت منها منذ سنين ... و لم يعد لها وجدود ...
في اليوم التالي ، اتصلت بوالدي و عرفت منه تفاصيل الموضوع ... و لكم أن تتصوروا اللهفة التي كان هو و أمي و دانة أيضا ... يخاطبوني بها
أختي الصغيرة ... التي كبرت بعيدا عن أنظاري و رعايتي و اهتمامي ، أصبحت عروسا
" وليد يجب أن تحضر و تجلب لي هدية أيضا ! "
و الآن ... و بعد مرور شهر واحد من هروبي منهم ، و عزلتي في المنزل، صار علي أن أعود إليهم من جديد ... أجر أذيال الخيبة و الفشل ...
في المساء ، ذهبت لسيف و أخبرته بما جد من أمري ، و أخبرني بأنه استطاع تدبير وظيفة لي في الشركة التي يعمل فيها و يملك جزءا منها
و بدأ أول أبواب الدنيا ينفتح أمامي أخيرا ...
" يجب أن تعود بأسرع ما يمكن لتباشر العمل "
... يتبع ...</font>
مواقع النشر (المفضلة)