<font color='#000000'>~ و انكشف الستار ~
الحلقة السابعة و العشرون
* * * * * * * * * * *
جالس على السرير الوحيد في تلك الغرفة الصغيرة، بعدما فرغت من استحمامي و صلاتي ، أمسك بيدي محفظتي و أعد نقودي..
ليس لدي سوى مبلغ ضئيل لا يكفي لتوفير مأوى آخر أو طعام لنا و لفترة لا يعلم بها إلا الله..
أشعر بخجل شديد من نفسي إذ جئت بعائلتي إلى هنا ، و رغم أنها عائلة طيبة كريمة لأبعد الحدود ألا أن وجودنا لا يجب أن يطول..
علي التصرف بشكل من الأشكال...
دانة واقفة أمام المرآة ، ثم تلتفت إلي و تراقبني دون أن اهتم لها ، ثم تسألني بقلق :
" ماذا سنفعل ؟؟ "
أفكر بعمق، و بصمت .. و في عجز عن إيجاد حل مناسب.. فقد احترق بيتنا بما حوى.. و نحن الآن مشردون و حفاة معدمون..
تكرر دانة سؤالها :
" وليد ماذا سنفعل ؟؟ "
ارفع بصري إليها ، و أرفع حاجبي ّ و أقوّس فمي للأسفل.. ماذا سنفعل ؟؟
رغد كانت في دورة المياه..
اقتربت مني دانة و قالت :
" نوّار و عائلته سيغادرون البلدة "
و صمتت... و ظلت تراقبيني قليلا ثم قالت :
" و يريدون أخذي معهم "
تغيرت تعبيرات وجهي و قلت باضطراب :
" ماذا ؟؟ "
قالت بتردد :
" إنه نوّار... يريد أن .. يبعدني عن البلدة و الخطر .. "
قلت :
" و الزفاف ؟؟ "
تنهّدت دانة و قالت :
" الزفاف ؟؟ احترق مع فستانه ! "
ثم أخذت تبكي...
و يحق لها أن تبكي بمرارة.. و هي العروس التي كانت تعد لزفافها المرتقب بعد أيام فقط..
شعرت بقهر و غيظ في داخلي فوقفت و أحطتها بذراعي ّ محاولا مواساتها..
بعد قليل قالت :
" دعنا نسافر نحن أيضا "
" إلى أين ؟ كيف ؟ الرحلات محظورة "
" سيسافرون للمدينة المجاورة بالسيارة ، ثم يطيرون إلى بلد بعيد و آمن.. دعنا ننضم إليهم وليد "
" كيف يا دانة كيف ؟؟ إننا حتى لا نملك جوازات سفر أو بطاقات شخصية ! لا أنت و لا رغد على الأقل "
و هنا سمعنا صوت المفتاح يدار في باب الحمام .. فأسرعت أنا بالخروج من الغرفة لأدع المجال لرغد للتصرف دون حرج ..
في الخارج صادفت الآنسة أروى مقبلة نحو الغرفة ..
قالت :
" مرحبا "
" مرحبا سيدتي "
" لقد أعددنا المائدة .. هللا استدعيت الفتاتين ؟ "
" شكرا لكما.. "
" و خالي ينتظرك أيضا في المجلس "
" لا نعرف كيف نفيكم حق الشكر ؟ "
" لم عليك تكرير ذلك يا سيد وليد ؟؟ بل نحن من يتوجب علينا شكرك.. لقد قدّمت لنا الكثير من المساعدات طوال عدّة أسابيع ! أنت شخص نبيل الخلق و تستحق التكريم "
شعرت بالخجل من كلماتها و كلامها معي.. خفضت بصري حرجا نحو الأرض .. و حرت .. ماذا علي أن أقول ؟؟
هنا فتح باب الغرفة و ظهرت منه رغد ..
رغد وقفت تنظر إلي برهة في صمت ، ثم تنظر إلى الآنسة أروى بوجه جامد
الآنسة أروى ابتسمت و قالت :
" كيف حالك ألان يا رغد ؟؟ "
و لم يبد أن الصغيرة عازمة على الإجابة !
لكنها قالت أخيرا :
" بخير "
قالت أروى :
" المائدة جاهزة... أين أختك ؟ "
قالت رغد :
" دانة أخت وليد.. ابن عمي "
و لم أجد الرد مناسبا للسؤال ! قالت أروى :
" نعم أعرف ! و لكنها كانت تتحدث عنك بوصف أختي ! "
ظهرت دانة الآن من خلف رغد .. فحيتها أروى و كررت دعوتنا إلى المائدة..
ذهبنا إلى المنزل ، أنا و العم إلياس في المجلس ، و النسوة في غرفة المائدة ، و تناولنا وجبة شهية مغذية بعد طول الجوع و العطش ..
بعد ذلك تحدثت و إلياس ساردا ما حصل لنا بشيء من التفصيل.. فأبدى تعاطفه الشديد و رحّب ببقائنا في ضيافته إلى أن نجد حلا آخر.. و أنا وعدته بأن أبدأ العمل في المزرعة منذ اليوم ...
و رغم اعتراضه ، ألا أنني أصررت على ذلك و نفذته
كان ذلك بعد الغذاء بثلاث ساعات.. تركت الفتاتين نائمتين في الغرفة ، تعوّضان حرمانهما السابق من النوم ، و خرجت إلى ساحة المزرعة و باشرت العمل...
كانت هناك شتلات شجيرات صغيرة جديدة مطلوب غرسها في الأرض.. و توليت أنا هذه المهمة .. أحفر الأرض ، و أغرس الشجيرات ، و أسوي التراب ...
العم إلياس و كذلك أروى كانا أيضا يعملان من حولي..
كنت أشعر بالتعب و الإعياء فأنا لم أنل قسطي الوافي من النوم و الراحة بعد ، ألا أنني لم أطق تأجيل العمل إلى الغد..
أروى كانت تساعدني .. و تتحدث معي من حين لآخر..
إنها فتاة جريئة بالفعل !
فيما أنا جاثيا على الأرض أغرس إحدى الشجيرات في الأرض و أهيل عليها التراب.. و أروى واقفة قربي و ممسكة بالطرف العلوي لتلك الشجيرة .. سمعتها تقول :
" أهلا رغد ! "
رفعت رأسي إليها فرأيتها تنظر في إتجاه معين ...
التفت إلى ذلك الاتجاه فرأيت رغد واقفة تنظر إلي.. و لم تكن تعبيرات وجهها مريحة... البتة
وقفت ببطء .. و نفضت يدي و ثيابي مما علق بها من التراب .. ثم قلت :
" أهلا صغيرتي .. "
النظرات التي رشقتني بها رغد جعلتني انصهر حرجا .. و أهرب ببصري بعيدا عنها..
كانت مذهولة مصعوقة.. تحدّق بي بدهشة لا تضاهيها دهشة..
آلمتني نظراتها و غرست في صدري ألف خنجر.. لم أجرؤ على إعادة بصري إليها من جديد ...
سألت بدهشة :
" وليد.. ماذا تفعل ؟؟ "
ماذا أفعل ؟؟ ماذا أفعل يا رغد؟؟
ألا ترين ؟؟
أزرع الأرض.. ألوث يدي و ملابسي و جسدي بالأتربة و السماد.. و الوحل أيضا..
نعم .. أجثو على الأرض ضئيلا منخفضا وضيع الشأن.. بسيط الحال .. عوضا عن علو السماء و المركز و المنصب ..
احتقرت نفسي لحظتها أيما احتقار..
و تمنيت لو أنني دفنت نفسي عوضا عن الأشجار..
ماذا تظنين يا رغد ؟؟
أنني أصبحت شخصا مرموقا عالي الشأن ؟ هذه هي حقيقتي .. مجرد مزارع بسيط يعمل بجد فقط من أجل وجبة طعام و مأوى ...
" وليد .. ماذا تفعل ؟؟ "
أجبرت عيني على النظر إليها ، فهالني ما رأيت على وجهها ...
أرجوك كفى يا رغد.. أنت تذبحينني .. كفى ... كفى ...
اعترفت بخجل :
" أفلح الأرض .. فهذا هو عملي منذ زمن "
و لن أصف لكم كيف تحوّل وجه رغد إلى غابة ذهول مخيفة ...
من منكم جرّب هذا ؟؟ دعوه يصف لكم إذن ما أعجز أنا عن التعبير عنه ...
رغد تراجعت للوراء .. ربما لتبتعد عن صفعة الواقع الذي تكتشفه للمرة الأولى..
سارت إلى الوراء بعرج.. و عيناها المفتوحتان أوسعهما لا تزالان ترميان سهام الذبح نحو جسدي... من أعلاه إلى أسفله...
و فيما هي تسير إلى الوراء بهذا الذهول و أنا ساكن في مكاني ، رأيت العم إلياس يقبل من ناحيتها و يشير إلي بيده مخاطبا الرجل الذي معه :
" هذا هو شقيقك ! "
~ ~ ~ ~ ~ ~
لدى سماعي صوت الرجل العجوز قادم من خلفي ، التفت إلى الوراء بسرعة ، فرأيت سامر يقف أمام عيني ...
شهقت :
" سامر ! "
قال :
" رغد ! "
و أسرع نحوي و جذبني إلى صدره بقوة و عانقني بحرارة شديدة ...
" أوه رغد يا حبيبتي... لا أصدق عيني .. الحمد لله .. الحمد لله .. أنت حية ؟؟ شكرا لك يا رب .. شكرا لك يا رب "
و صار يبكي و أنا أبكي معه ..
و أخذ يقبّل يدي ّ و جبيني بلهفة .. لم أعهدها عليه من ذي قبل ..
" لقد نجونا يا سامر ! كدنا نموت لكننا نجونا بأعجوبة ! "
أقول ذلك و أتذكر ما مررنا به ، فأدفن رأسي في صدره و أغلق حصار ذراعي حول جدعه...
بعدما فرغ من نوبة الشوق هذه ، التفت إلى وليد ...
" وليد .. "
أقبل وليد إليه و فتح كل منهما ذراعيه للآخر و تعانقا بحمية ...
سامر بملابسه الأنيقة و هندامه المرتب النظيف ، و وليد بلباسه الملوث و يديه المتسختين بحبيبات الرمال ...
الناظر إليهما يجد فرقا كبيرا ...
و أنا وجدت ذك الفرق أيضا ...
كان لقاء دانة بسامر دراميا ...
دانة تحب سامر أكثر من وليد.. السبب في ذلك أن وليد غاب عنا لسنين.. سنين لا أعرف أين كان فيها و لا ما عمل ؟؟
إذا كانت الحقيقة التي أراها أمام عيني .. هي حقيقة رجل يعمل في فلاحة الأرض !
بعد فترة ، كنا نحن الأربعة في تلك الغرفة...
وليد لم يتحدّث إلي بل لم ينظر إلي مذ رأيته يغرس الشجرة قبل ساعات... و أنا بدوري تحاشيته .. و ركزت اهتمامي على سامر و ما يقوله ..
" سنذهب إلى شقتي ، سأستأجر شقة أكبر حجما تسعنا و والدي ّ جميعا "
كانت هذه فكرته ، و دانة رحبت بها بشدة :
" إذن هيا بنا الآن "
قالت ذلك ، ألا أن وليد قال :
" اصبروا قليلا .. إنه المساء و لا يصلح للسفر.. كما أن المسافة ليست قصيرة و لابد أنك متعب ألآن يا سامر "
قال سامر :
" مطلقا ، رؤيتكم أزالت عني أي أثر للتعب ... "
ثم نظر نحوي و قال :
" ألف حمد لله على نجاتكم أيها الأحبة "
قال وليد مؤكدا :
" كما أن الطريق غير آمن.. و لم يكن يجدر بك الحضور يا سامر و تعريض نفسك للخطر "
قال سامر :
" و هل تعتقد أنه كان باستطاعتي البقاء هكذا ؟؟ "
قال وليد :
" على كل ٍ .. سنبقى هنا الليلة "
قال سامر ، بعدما جال ببصره في أنحاء الغرفة بشيء من الأستهانة و أشار إلى الأرض :
" هنا ؟؟ "
قال وليد :
" معذرة فأنا لم أملك من النقود ما يكفي لاستئجار شقة "
قال سامر بثقة :
" لا تقلق بهذا الشأن.. "
قالت دانة :
" إذن لم لا نعجّل الخروج ؟ هيا سامر دعنا نبحث عن شقة مناسبة "
جميعنا ننظر إلى وليد و الذي يظهر استياء في غير محله !
أليس من الطبيعي أن نغادر هذا المكان شاكرين للعائلة كرم ضيافتهم ؟؟
قال وليد أخيرا :
" كما تشاءون "
و من ثم ّ غادر الغرفة ...
أخذنا نحن الثلاثة نتحدّث عما مررنا به .. و عما نحن مقبلون عليه.. في الحقيقة ، التزمت أنا جانب الصمت و الاستماع معظم الوقت... فتفكيري كان قد خرج مع وليد لحظة خروجه..
رؤيته بالشكل الذي رأيته عليه صدمتني كثيرا ...
وليد .. ذلك العملاق الضخم .. الذي أرفع رأسي عاليا إذا نظرت إليه.. الذي أشعر به سمائي .. و نجمتي.. و شمسي .. و جبلي أيضا.. أراه جاثيا على التراب يحفر الأرض.. و يغرس الشجر.. و يلوث يديه بالطين !؟
وليد ؟؟
لطالما كنت أراه عظيما عاليا.. شيئا معلقا في السماء..
أما أن تغوص يداه في الأرض.. فهذا أشبه بالكابوس الذي مررت به يوم القصف..
فيما نحن كذلك رن هاتف سامر المحمول ، فتحدث إلى الطرف الآخر .. و من حديثه معه استنتجت انه صديق وليد ( سيف )
أراد سامر أخذ الهاتف إلى وليد، فلما غادر الغرفة غادرت من بعده..
كان الظلام قد حل .. و ما أن فتحنا الباب حتى تدفقت أنسام عطرة منعشة قادمة من بين الأشجار و الزهور الفواحة ..
لحظتها فقط التفت إلى جمال المكان الذي كنا فيه ...
تماما كجمال أصحابا ... شكلا على الأقل !
في الخارج ، في الساحة الواسعة أمام المنزل ، رأينا أفراد العائلة المضيفة يجلسون جميعا على بساط أرضي ، و وليد معهم ...
الإنارة كانت خفيفة صفراء منبعثة من مصباح المنزل الخارجي..
كان الرجل العجوز يجلس إلى جانبه و يمسك في يده سلة سعفية نصف مكتملة الصنع ، و يظهر أنه يشرح لوليد كيف يصنع مثلها..
و إلى الجانب الآخر من وليد تجلس أروى الحسناء .. تصنع سلة أخرى هي بدورها.. و تلقي بالملاحظات على الاثنين ، أما أم أروى فكانت منشغلة بتكسير بعض الثمار الصلبة ، و استخراج بذورها..
تنحنح سامر فالتفتوا نحونا.. وقف وليد و أقبل إلينا.. مد سامر الهاتف نحوه و قال :
" صديقك الحميم يود الاطمئنان عليك "
" سيف ؟ "
" نعم ! اتصل عدة مرات ... "
أخذ وليد الهاتف و تحدث معه محادثة استمرت عدة دقائق ..
و حالما انتهى و أعاد الهاتف إلي سامر قال الأخير :
" فلنذهب الآن يا وليد ... "
وليد التفت ناحية العائلة و قال :
" سأشكرهم و أودعهم ... "
نحن الثلاثة أقبلنا إلى إليهم فوقفوا... و بدأ وليد يكرر عبارات الشكر و الامتنان ، و هم يعبرون عن سرورهم باستضافتنا بل و يصرون على بقائنا بعد..
قال أروى :
" إذن لن تبقى معنا ؟؟ أ لن تعود إلينا ؟ "
و كان ظاهرا على وجهها الأسف...
وليد قال :
" بلى.. سأعود حالما اطمئن على سير الأمور كما يجب.. "
ثم أضاف :
" أنتم عائلتي و هنا عملي "
أروى ابتسمت بسرور... أما أنا فشعرت بغصة في حلقي ...
قالت :
" مكانك محجوز لك و غرفتك جاهزة فأهلا بك في أي وقت "
شكرها وليد .. ثم استدار نحونا و قال :
" أ ننطلق ؟ "
قال أروى :
" لحظة "
و ذهبت إلى المنزل و عادت تحمل كيسا قدمته إلى وليد و قالت :
" ملابسكم .. نظيفة و مطوية "
فتناول وليد الكيس من يدها و كرر شكرها ..
كل هذا أمام عيني .. و يشعرني بالغضب !
واضح أنها معتادة على وليد و تخاطبه و كأنه أحد أقاربها ، لا رجلا غريبا...
لا يعجبني ذلك أبدا ...
بعد وداع العائلة ، ذهبنا إلى شقة قريبة قضينا فيها ليلتنا تلك ، و من الصباح الباكر غادرنا المدينة متجهين إلى مقر سامر...
طول تلك الفترة و أنا في حالة من الذهول... لم استفق منها بعد..
و وليد لم يكن يكلمني.. بل أنه كان يتحاشاني عن عمد.. و كأن شيئا لم يكن...
استأجر سامر شقة متوسطة الحجم في نفس المبنى الذي كان يقطنه .. شقة جمعتنا نحن الأربعة تحت سقف واحد ..
والداي كانا يتصلان مرة أو مرتين في اليوم بنا ليطمئنا على أحوالنا، و الحظر عن دخول المسافرين الى البلد استمر عدة أسابيع...
شفي الجرح الذي في قدمي شيئا فشيئا.. و قد كان سامر يصطحبني كل يوم إلى المستشفى من أجل تطهيره..
كنت على اتصال مستمر بعائلة خالتي ، و التي بقيت في المدينة تعيش على ما تبقى من حطامها..
في أحد الأيام ، جاءنا نوّار خطيب دانة، يطلب أخذ دانة معه إلى الخارج.. حيث سيستقر هو و عائلته عدة أشهر إلى أن تهدأ الأوضاع ..
نوار كان قد تحدّث بهذا الشأن إلى والدي و الذي يبدو أنه أيد الفكرة من باب إبعاد دانة عن البلدة .. كما أيدها سامر و تحمّست لها دانة كثيرا ، ألا أن وليد كان معارضا
" كيف يا دانة ؟ دون زفاف ؟ دون عرس ؟؟ دون وجود والدي ّ ؟؟ "
" و هل تعتقد أنني سأعيد شراء كل ما احترق من جديد ؟ دعونا نقيم حفلة بسيطة خاصة بنا.. أنا أريد أن أغادر هذه البلدة و التعاسة المخيمة عليها "
" و والداي ؟؟ "
" إنهما يؤيدان الفكرة .. و سوف نذهب إليهما أولا ثم نغادر "
" كلا.. سننتظر حتى يسمح لهما بالعودة ، ثم نقيم حفلة عرس متواضعة.. لن ننقص من قدرك أمام ذلك المغرور "
حينما قال وليد ذلك، اغتاظت دانة و قالت بحدة :
" من هو المغرور ؟ "
لزم وليد الصمت ، فقالت :
" لا أسمح لك بإهانة خطيبي ! أي قدْر هذا الذي تتحدّث عنه ؟؟ أ بعْد حطّتي في القدر باكتشاف حقيقة مخجلة مخزية عنك ، تجرؤ على الحديث عن القدر ! "
نشبت مشاحنة حادة بين الاثنين ، و أنا و سامر نتفرج بصمت..
قال وليد في معرضها :
" لن تفعلي ما يحلو لك .. و أنا المسؤول عنك في غياب والدي شئت أم أبيت "
دانة ردت بحدّة :
" و من قال أنني أنتظر الإذن منك أو أتشرف بمسؤوليتك هذه ؟؟سأسافر مع نوار يعني سأسافر معه.. و أنت عد من حيث أتيت فذلك أنسب لحالك و مثلك "
وليد رفع يده و كاد يصفعها ، ألا أنه توقف في منتصف الطريق.. و كتم غيظه..
لم أتمالك أنا نفسي ، فقلت غاضبة :
" ألا تحترمين شقيقك الأكبر ؟ ! "
قالت :
" اخرسي أنت..إنه شخص لا يستحق الاحترام "
جميعنا ننظر إلى دانة بغضب .. و هي تدور ببصرها حولنا ..
سامر نطق أخيرا و قال غاضبا :
" دانة ! يكفي "
" اجدر بك ألا تخشى على مشاعره ! أنسيت ما فعل بك ؟ "
هتف وليد :
" دانة "
صرخت هي :
" اضربني ! أليس هذا ما يتعلمه المجرمون في السجون ؟؟ "
وليد أمسك بكتفي دانة و هزّها بعنف و هو يصرخ :
" يكفي.. إياك و قول المزيد.. أتفهمين ؟؟ إن نطقت بحرف بعد فسأقطع لسانك .. أنا خارج من حياتك فاهنئي بمن تريدين "
و حررها من بين يده و قال مخاطبا سامر :
" افعلوا ما تشاءون .. فأنا لم يعد يهمني من أمركم شيئا "
ثم التفت إلي ففزعت من نظرته المرعبة ... و زمجر هو :
" و هذه أيضا.. تزوجها بالمرة و خلصوني منكم جميعا.. "
و أسرع خارجا من الشقة ...
مرت الساعات و لم يعد.. و انتصف الليل و لم يعد.. قلقت كثيرا عليه.. خرجت من غرفتي في قلق فإذا بي أرى سامر يجلس في الصالة أيضا ...
" ألم تنم ؟ "
" أشعر بالأرق "
" هل عاد وليد ؟ "
" كلا "
" إلى أين ذهب ؟ "
" لا علم لي ... "
" ربما عاد للمزرعة ! "
قلتها و أنا أضع يدي على صدري خوفا من أن تكون حقيقة ...
سامر نهض واقفا .. و اقترب مني و قال :
" ما رأيك بما قال ؟ "
" ما ذا تعني ؟؟ "
أمسك بيدي و قال :
" بأن .. نتزوج نحن أيضا .. "
هنا احتقنت الدماء في وجهي و اضطربت تعبيراته... رأى سامر الرفض على وجهي و قال :
" أرجوك .. رغد .. "
هويت بنظري أرضا ...
لماذا يعود لفتح الموضوع الآن ؟ لماذا يا سامر لا تعتقني ..
سامر رفع وجهي بيديه كلتيهما و قال بصوت شديد الدفء و الحنان :
" كدت أجن .. لما حصل معك ..لا أريد أن تفترقي عني لحظة واحدة .. أحبك بجنون "
أبعدت وجهي عنه و استدرت و أنا أقول :
" كفى .. أرجوك ... "
و انهمرت دموعي ...
حاصرني سامر .. حاولت الفرار ألا أنه لم يدع لي المجال ..
" رغد .. لماذا ؟ بالله عليك أخبريني بصدق .. لماذا ؟ "
أردت أن أعود إلى غرفتي ألا أنه منعني ... كان مصرا على مواجهتي ...
قرع الجرس الآن... لابد أنه وليد...
فتح سامر الباب فإذا به وليد بالفعل...
كان وجهه حزينا كئيبا مهموما.. منظره يثير القلق و الحيرة ..
لم يتكلم.. نظر إلينا قليلا ، ثم ذهب إلى غرفته..
ثوان و إذا به يخرج ثانية ، ممسكا بمحفظته و مفاتيحه..
و سار نحو الباب ..
سامر استوقفه سائلا :
" إلى أين ... وليد ؟ "
استدار وليد إلى سامر و قال بنبرة نامة عن الحزن و الاستسلام :
" إلى المزرعة "
دهشنا و اشرأبت أعناقنا عجبا ..
قال سامر :
" ماذا ؟؟ "
قال وليد :
" فقد انتهى دوري "
و فتح الباب و همّ بالخروج ...
أسرع سامر إليه و أوقفه :
" وليد ! هل تعني ما تقول ؟؟ إلى المزرعة في هذا الوقت ؟؟ "
استدار إليه و قال :
" نعم ، فهي المكان الذي يناسب أمثالي "
و خرج ...
و رغم نداءات سامر و محاولاته المستميتة لإيقافه ألا أن وليد أبعده ، واستمر في طريقه ...
الجنون أصابني أنا لحظتها... ركضت نحو الباب و صرخت :
" وليد .. لا تذهب "
ألا أن وليد لم يلتفت إلي .. و تظاهر بعدم سماعه لي ..
" وليد ... وليد عد .. "
هتفت و هتفت ، ألا انه ابتعد... و اختفى عن أنظاري ...
سامر أغلق الباب.. و تنهّد بأسف ...
قلت بعصبية :
" ماذا تنتظر؟ الحق به ! امنعه ! "
ألا أن سامر هزّ رأسه بقلة حيلة ..
تفجرت دموعي و أغرقت وجهي كما الطوفان ، و زمجرت :
" الحق به يا سامر دعه يعود "
" لن يفعل يا رغد.. لن يفعل "
رفعت يدي و أمسكت بذراعي سامر و صحت :
" كيف تتركه يذهب ؟ ماذا إن أصابه مكروه ؟ الحق به سامر أرجوك "
سامر قال بضيق :
" ألم أفعل ؟ لا جدوى من ذلك .. أنا أعرفه "
هززت رأسي باعتراض شديد و صرخت :
" كلا .. كلا كلا ... "
نظر إلي باستغراب ...
قال :
" رغد ! ؟ "
قلت بانفعال :
" سأذهب معه "
ذهل سامر ، و قال :
" ماذا ؟؟ "
صحت :
" سأذهب معه ... لا أريد البقاء هنا .. لا أريد البقاء هنا.. لماذا ذهب و تركني .. لماذا ؟ "
سامر أمسك بذراعي بقوة و بذهول قال و هو يحدّق بي :
" تذهبين معه .. و تتركيني ؟؟ "
ابتلعت لساني و لم أنطق بأي كلمة ... سامر كان يحملق بي بحدة .. نظرات فاحصة مدققة مدركة مستنتجة .. قارئة لما اعترى وجهي من تعبيرات صارخة ...
" رغد ... تتركيني من أجله ؟؟ أليس كذلك ؟؟ "
صعقت .. و توقف قلبي عن الخفقان ... و لم أشعر بالدنيا من حولي سوى عيني سامر اللاسعتين .. و يديه القابضتين علي بعنف ..
قال :
" تكلمي يا رغد ؟؟ أهذا هو السبب ؟؟ "
لم أجبه ..
بدأ يهزني بقوة .. و آلمني كثيرا ...
" رغد تكلّمي ... قولي ما تخفينه .. اعترفي هيا "
" دعني سامر "
لكنه هزني بعنف أقوى و بحدة صاح بوجهي :
" تكلمي يا رغد هيا..ماذا لديك؟ انطقي بسرعة..لماذا قررت التخلص مني؟ قولي هيا؟ "
فقد ت السيطرة على نفسي و صرخت :
" لأنني لا أحبك .. لا أحبك يا سامر .. هل ارتحت الآن ؟ "
سامر دار بي حتى رطمني بالباب .. و هتف صارخا :
" .. وليد ؟؟ "
تفجّرت لحظتها و صرخت بأعلى صوتي مطلقة سراح ما حبسته في صدري عنوة :
" نعم أحبه.. أحبه هو .. أحبه هو .. أحبه هو .. هو .. هو "
بعد هذا الانفجار .. و الذي خرج من صدري دون شعور و إدراك .. و وعي ، وعيت على الواقع بصفعتين قويتين تلقيتهما من كف سامر الثائر..
أفقت فجأة فرأيت نفسي أقف مسنودة إلى الباب .. و دموعي تجري كشلال ضخم.. و سامر يقف أمامي كأسد ثائر ... يكاد يفترسني ...
لم أدرك أنني أفصحت عمّا في قلبي إلا بعد حين ...
توقفت أنفاسي .. في حالة من الذهول مما أنا فيه ...
كالجمرة المتقدة كان وجه سامر محمرا متوهجا .. و كانت يداه توشكان على الانقضاض علي ...
قال :
" لقد كنت أحمق إذ لم أعر شكوكي اهتماما يومها ... كم كنت غبيا ... لقد كنت تحبينه كل ذلك الوقت و تستغفلينني ؟ "
لم أستطع النطق بأي كلمة ..
تابع هو :
" نعم .. فأنت ركضت نحوه هو يوم كنا عند الشاطئ.. و تركتني أنا واقفا كالأبله جواره تماما.. "
ثم أطبق علي بيديه و قال :
" لهذا تريدين التخلص مني ؟؟ لن تفعلي هذا بي يا رغد.. لن أسمح لك بهذا أبدا "
و سحبني بعنف .. و سار يجرني إلى غرفتي ، و دفع بي بقوة نحو السرير ... فارتطمت به بآهة ...
زمجر :
" لن أسمح لكما بذلك .. أتفهمين ؟؟ أبدا يا رغد "
و خرج من الغرفة و هو يصفع بالباب ...
~ ~ ~ ~ ~ ~
حينما وصلت إلى المزرعة.. كان ذلك قبيل أذان الفجر...
دفعت مبلغا كنت أنا الأحوج إليه إلى السائق الذي أوصلني... و أخذت أعد ما تبقى لدي من جديد...
لزمت المسجد لحين ارتفاع الشمس في صدر السماء... و ناجيت الله طويلا .. شاكيا له حالي و باثا إليه همومي و سائلا إياه الرحمة و اللطف ...
ذهبت إلى المزرعة بعد ذلك و استقبلني العم الطيب و ابنة أخته استقبالا حافلا ... و علمت منهما أن السيدة ليندا عادت إلى المستشفى من جديد ، في نوبة جديدة ...
كلما تذكرت أنني كنت السبب في المرض التي اعترى قلب هذه السيدة كرهت نفسي أكثر .. و شعرت بمسؤولية أكبر تجاهها و تجاه المزرعة و من فيها...
قمنا بزيارتها مساء ذلك اليوم.. ففرحت هي بزيارتي و طلبت مني مساعدة أخيها و ابنتها في العناية بالمزرعة ..
عملت بجد و اجتهاد في الأيام التي تلت .. و لم أتصل بأهلي إلا اليوم ..
كان العم و أروى قد ذهبا لزيارة السيدة ليندا ، وأنا بقيت في المنزل وحيدا ...
تحدّث سامر إلي و طمأنني على أحوالهم ، و أخبرني أنه و رغد ، كما نوّار و دانة سيحتفلون بزواجهم بعد ليلتين...
أقفلت السماعة ، و حاولت منع رأسي من التفكير في أي شيء...
فبعد اللقاء الحميم الذي جمعهما في المزرعة أول وصوله ، فقدت أي اهتمام يذكر بشأن عرقلة هذا الزواج .. سواء ً كان برضا من رغد أو باضطرار منها..
أنى لها أن تجد الزوج الأنسب ؟؟
و كيف أسمح لنفسي بالتفكير بها .. و ما أنا إلا رجل فقير معدم .. لا يملك مأوى و لا قوتا ؟
و إن عشت ألف سنة بعد ، لن أنسى نظرة الازدراء التي رمتني بها يوم كنا في المزرعة ...
صدقت يا سامر
رغد لا تستحق الزواج من مجرم قاتل .. فقير معدم .. وحيد منبوذ مثلي ..
عاد العم و أروى من المستشفى فرأياني شاردا سارحا تائها في أفكاري ...
كما رأيا الدمعة التي هربت من مقلتي ..
رأيت في عينيهما القلق .. و سألاني عما إذا كان شيء ما قد حصل ، فأجبتهما :
" لا شيء "
الفتاة ذهبت إلى المطبخ أما العجوز فعاد يسألني :
" ما بك يا بني ؟ تبدو في غاية الحزن ؟؟ "
قلت :
" و هل ترى في حالي ما يدعو للسرور أيها العم ؟ إنني في أسوأ حال "
" قل الحمد لله يا ولدي.. "
" الحمد لله "
تنهدت ، ثم قلت بمرارة ...
" إلى متى سيظل حالي هكذا ؟؟ لسوف أبحث عن عمل من جديد .. إنني بحاجة للمال .. لتكوين نفسي و بناء مستقبلي "
" ماذا عن .. العمل معنا ؟؟ "
نظرت إلى الرجل العجوز نظرة امتنان و قلت :
" لكن إلى متى ..؟؟ إنني تائه ! بلا بيت و لا أهل ... "
" و نحن ؟؟ "
" أنتم .. عائلتي حتما و لكن .. "
و صمت ...
العم قال :
" و لكن لا يربطنا نسب أو دم .. "
لم أعلّق ، قال :
" مشكلة سهلة الحل "
نظرت إليه بحيرة ...
ابتسم العجوز و قال :
" إن كنت تريد لها هذا الحل "
قلت :
" عفوا ؟؟ "
العم إلياس امسك بيدي و ظهر الجد على تعبيرات وجهه و قال :
" أزوّجك ابنة أختي ! "
تملّكني الذهول و المفاجأة .. رمقته بنظرة بلهاء غير واعية لحقائق الأمور ..
" ماذا ؟ "
أجاب العم :
" إذا كنت ترى ذلك طبعا ... مثلما نراه نحن .. "
تلك الليلة لم تسمح لي الفكرة هذه بالنوم.. خرجت من غرفتي أحمل علبة سجائري التي اشتريتها مؤخرا... و التي عدت استهلكها بشراهة .. سرت متجولا في المزرعة في تفكير عميق ...
قضيت وقتا في الخارج ، و لما عدت .. لمحت أروى جالسة على عتبات المنزل ...
لما رأتني نهضت واقفة ... و ألقت علي التحية ..
ارتبكت.. و رددت باضطراب ..
قالت و هي تنظر إلى السيجارة في يدي :
" ألم تقلع عن التدخين ؟؟ "
" أأ .. صعب .. "
قالت :
" أنت تضر بصحتك ! لا تستحق هذه التافهة الاهتمام ! "
تنهّدت .. و نظرت إلى السماء ثم قلت :
" لا شيء في حياتي يستحق الاهتمام ... و لا حتى أنا "
" أنت مخطئ ! "
و ندمت على مقولتي هذه !
و رأيت نظرات الاهتمام في عينيها ...
غضضت بصري و قلت :
" بعد إذنك .. سأعود إلى غرفتي "
و خطوت بضع خطوات مبتعدا ، و أنا أحس بها تراقبني ...
التفت للوراء فوجدتها بالفعل تراقبني ...
لا أعرف من أين استمددت هذه الجرأة و الجنون لأسألها :
" آنسة أروى .. "
" نعم ؟ "
" تتزوجينني ؟؟ "
]]] يتبع ]]]</font>
مواقع النشر (المفضلة)