عين الدماني
14-06-03 ||, 02:02 AM
<font color='#728FCE'>بالرغم من أني ما كنت أحس بأي ألم إلاّ أني كنت أتقلب على سريري
خايفة من بكره… ما أدري ليش؟!!!.
ابتسمت وأنا أتذكر زوجي، كان يقول:
- لا تخافين يا العنود الطب تطور، وأَبلف بك العالم لين تشفين، لا تخافين أنا معك.
ابتسمت وأنا أتذكر كلامه والخوف اللي بنظراته وهو يحاول يطمني. أمي يا حبيلك يا يمّه… طول الليل كانت تصلي وكل ما فتحت عيوني سمعت صوت همساتها تدعي لي، وتتضرع لله. يا حبيلك يا يمّه ويا حبيلي لعيونك اللي مَورْمه من البكاء، بالرغم من أنّي ما أشوفها وهي تبكي.
أشياء كثيرة تغيرت هالأيام، زوّاري كلهم تغيروا، ما عاد يجيني أحد من سني، لا ما عاد أشوف إلاّ كبار العايلة اللي يتصفون بالدين والعقل. شيء غريب!! ما أدري وش سببه؟! حتى الأحاديث اللي تطرح في غرفتي كلها عن قوة الإيمان والصبر.
وما عاد أحد يذكر لي الأمل في الشفاء، ولا أخبار العايلة!! بنت عمي ولدت ما دريت إلاّ بالصدفة، سمعت وحدة تبارك لأمها في زيارتي.. وش صاير؟!!!!! والله شكيت أنهم يعرفون عني شيء أنا ما أعرفه! يعني يمكن الطبيب قال في حالتي شيء؟!!!.
بس طردت وساوسي بحجة إن الطب تطور، والطبيب شكله مطّمّن علي، وزوجي يقول إني بَشفى إن شاء الله أكيد.
قطع صوت أمي حبل أفكاري، وهي تناديني:
- العنود قومي وأنا أمك صلّي.
ابتسمت وأنا أتذكر كيف أمي تغيرت. أمي أوّل من كثر حبها لي في البرد إذا أذّن الفجر تهمس في أذني إني أصلي، وكنها ودها إني ما أسمعها، وإذا ما قمت تعيمت عني وسكتت وابعدت، وهي تدعي إن الله يهديني. غريبة من بداية مرضي وهي حريصة على صلاتي، تقومني بصوت حزين مستسلم، ابتسمت وقلت لها:
- أنا قايمة يمّه.
تنهدت وقالت:
- الله يشفيك يا بنيتي.
قلت:
- يمّه… ليش أنتِ حزينة؟! ترى أنا طيبة، والله ما فيني إلاّ العافية بالذات اليوم.
وطلعت أمي وأنا أكلمها وتركتني. استغربت، وسكت، وقمت أصلي. يوم سلّمت وقبل لا أقوم عن سجادتي إلاّ باب الغرفة يدق الفجر!!! من جاي هالوقت؟!!! شفت أخوي الكبير محمد يطل من الباب. ابتسامته تنوّر وجهه الملتحي، بس ابتسامته كلها حزن. قال:
- كيف حالك يا الغالية اليوم؟!.
وسلّم على أمي وانحنى يسلم على يدها، قلت:
- الحمد لله بخير اليوم أنا طيبه، وأظنهم اليوم بيطلعوني. عندي إحساس.
الغريب بالرغم من إني كنت أبي أفرحه إلاّ أنه التفت عني وراح للشباك، وفتحه ووقف عنده شوي وهو يتنفس بعمق ويذكر الله. وكأنه يحاول يطرد الشيطان، بعدين قال بدون ما يرفع عينه من الأرض:
- ودّي أغيّر اتجاه سريرك يا العنود.
وقبل لا أرد حرّك السرير وخلاّه من جهة القبلة… ابتسمت، قلت:
- لييش؟!!!!!!!!.
قال وهو ما رفع عينه من الأرض وبصوت مرتعش:
- أفضل علشان إذا دعيتي الله تكونين مواجهة للقبلة.
قلت وأنا أضحك :
- محمد أخاف ذي بدعة، انتبه.
ولا رد علي، حط مصحف جنب سريري وخرج وتركني، ولحقته أمي، وأنا ابتسمت وأنا أتذكر المناقشات الحادة اللي كانت تدور بينا في أمور الدين. كان دايم ينصحني ويوعظني، وأنا بالرغم من إني أحترمه إلاّ أني كنت أناقشه في أي فكرة يقولها، وأقول اللي في خاطري، وهو كان متقبّل للمناقشة ويرد برحابة صدر.
رجعت لسريري وتمددت عليه، فعلاً هالمكان أحسن من الأول، هنا أقدر أشوف الحديقة اللي برّا، وأشوف العصافير تغرد في الصبح. تذكرت شباك غرفة بنتي سارة، أكيد العصافير متجمعة عنده ألحين. يا ما أزعجتني أصوات تغريدها، وفتحت الشباك علشان أفرّقها، لا تقوم حبيبتي سارة وترتاع. يوه… وينك يا سارة؟! بكرة بتنامين في حضني إن شاء الله، وأبعوضك عن الأيام اللي قضيتها بعيدة عنّك في المستشفى، بكرة أبشم ريحتك يا عمري.
دخلت أمي، قلت:
- يمّه سارة تراها الأيام الأخيرة تجيها كوابيس، عساك وصيتي نورة عليها لا تفارقها لو دقيقة في الليل لين أجي.
قالت أمي:
- ما عليكِ أنتِ، سارة مرتاحة، فكري بنفسك بس.
تمددت على سريري وأنا أطالع الساعة على الحائط، الدكتور بيجي الساعة 10 وأبقوله إني أبطلع خلاص، ماله داعي أربك أهلي وزوجي أكثر من كذا، خاصة أخوي ماجد قرّب عرسه. وسحبت مجلة أزياء، وفتحت على صفحه الموديل اللي اخترته لزواج أخوي ماجد، واتخيلت شكلي وأنا لابسته، يوووه أبقهر كثير من البنات اللي ينافسوني في العايلة، أبكسر عينهم
وقعدت أفكر… كيف أقنع الخياطة علشان توافق تخيطه بسرعة؟! وغفيت.
وقمت على صوت أخوي محمد يقرأ قرآن عند راسي، وفتحت عيوني، وابتسمت له، قلت:
- محمد ما بعد رحت البيت؟!!! يوه وعملك؟!!!!.
مارد علي وكمّل قراية لين ختم السورة، وهذا أبو سارة زوجي الحبيب اللي مسك يدي، وقال وهو يبتسم بحنان:
- هاه العنود… عساكِ ما حسيتي بشيء؟!
استغربت من سؤاله! قلت:
- لا أنا يا خالد طيبة، ما فيني إلاّ العافية، وودي أطلع الصراحة.
قال: الله يشفيكِ.
وابتعد عني بسرعة لا أشوف دموعه، وفي هاللحظة سمعنا دقات على الباب، ودخلت الممرضة لتعلن وصول الطبيب. وفي هاللحظة زوجي نقز من مكانه كأنّه مقروص، وخرج بسرعة مثل الواحد اللي يبي يهرب، أما أنا فرحت قلت للممرضة بحماس:
- خلّيه يدخل أنا جاهزة.
ودخل الطبيب، طبيبي يشبه أخوي محمد كثير، مسلم ملتزم ملتحي ومحترم، ما أذكر مرّة إنه رفع عينه في عيني إلاّ للضرورة، وأنا أستحي منه مرّة، بس أثق فيه وأعتبره زي أخوي، قال:
- هاه كيف حالك يا العنود؟!
- الحمد لله يا دكتور، أنا اليوم أفضل يوم لي من بداية مرضي، وأبي أطلع خلاص، اشتقت لبيتي.
أخوي في هاللحظة طلع بسرعة وأمي لحقته وتركوني لحالي مع الطبيب والممرضة، الظاهر كانوا يتوقعون انفجار لغم. قال الطبيب بوجه جامد ما فيه من الإحساس ذرّه، وكأنه مو هو اللي يتكلم إلاّ كأنه يحكي بلغه هو نفسه ما يعرفها، قال:
- العنود أنا بكتبلك خروج.
ونوّر وجهي بابتسامة وأنا أدس يديني تحت الغطوة لا يشوفها الطبيب، وكمّل كلامه بوجه جامد:
- العنود أنتِ وحدة مؤمنة وأكيد عارفة إن الموت حق.
وسكت.
تسارعت أنفاسي وأنا أقول:
- إيه… كمّل يا دكتور.
- حالتك ميؤوس منها، وبطلعك علشان تقضين آخر أيامك في المكان اللي تحبينه.
ورجع لصمته وسكت الطبيب، وسكت كل شيء في الغرفة، بس أنا ما عاد أسمع إلاّ صوت أنفاسي وصوت أكوااام الأمل اللي انهدت في قلبي، ومن الصدمة رميت غطوتي بعيد وقمت بحماس، وكأني بدافع عن حياتي، وكأن الطبيب هو اللي يبي يسلبها مني، وانحنيت، ولأول مرة أحط عيني في عين طبيبي اللي ما رفعها عن الأرض، وقلت بحماس:
- دكتور!!! لا تقول كذا أنا طيبة! دكتور!!! وش هالكلام؟!!! دكتووور كيف الطب يعجز عن حالتي أنا؟!!!!! أنا؟!!! أصلاً أبو سارة قال إنّه بيلف بي العالم!!! كيف المرض ينتصر على شبابي وحيويتي؟!! أنا أقوى منه أكيد.
- يا العنود الموت والحياة بيد الله، والطب وسيلة، وما أدري؟! يمكن يبقالك ساعات أو أيام أو أسابيع؟! بس حالتك يا العنود ما عاد نقدر نسيطر عليها.
وسكت.
وقبل لا يطلع قال، وكأنه يبي يخفف عني:
- وأبعطيك أقوى المهدئات ولا راح تحسين بالألم في باقي أيامك إن شاء الله.
حسّيت ساعتها إني مجوفة فاضية من الداخل، حسيت الدنيا سوداء حواليني، وبدت تتضح لي صور من بعيد في مخيلتي، أول صورة شفتها كانت صورة سارة بنتي وهي تضحك وعمرها شهور. وبعدين شفت صورة زواجي وأنا لابسة أبيض وزوجي ماسك يدي بفخر، وهذي أمي وهذي زميلتي في المدرسة شفتها، مع إني من بداية الصيف ما قابلتها ولا كلمتها، وهذولا عصافير غرفة سارة. وآخر صورة شفتها قبل لا أفوق كانت فستان زواج ماجد اللي اخترته من مجلة الأزياء.
حسيت باختناق وضيق، هذا حضن أمي اللي دخلت علي وضمتني، وأبعدها عني بقوة وقاومت علشان أتخلص من حضنها، وسمعت صوت زوجي يكلم الطبيب عند الباب، طالعت أمي بعصبية، وقلت:
- يمّه ما أبي أشوف خالد.
كانت رغباتي أوامر في ذيك الساعة، ركضت أمي وردّته من عند الباب، ما كنت أبي أشوفه، كنت متأكدة إني ما راح أتحمل شوفته هو بالذات، حسّيت إنه بيذكرني بأيام الرخاء وأنا ألحين في شدة. وينكم يا أهلي؟!! بس ما أبي غيركم. ما بكيت ولا نزلت مني ولا دمعة، وكأن الخبر كان فوق مستوى البكاء، بالعكس تحمست وقلت:
- يا الله أبطلع.
أكملت إجراءات خروجي، وقبل لا أطلع جت المريضة اللي بتاخذ غرفتي، طالعت عيونها فيها بريق أمل تختلف تماماً عن نظرتي أنا، كانت نظرتي ميتة عميقة مالها لمعة. سبحان الله للأمل بريق في العيون. وطلعت قلت لأخوي:
- محمد ما أبي بيتي، أبي أروح لغرفتي قبل لا أعرف خالد.
وفعلاً أخوي بدون أوامري كان رايح لبيت أهلي. ونزلت ودخلت البيت بس ما لقيت في استقبالي إلا خواتي الكبار!! والبيت كأنهم أخلوه لي! هذا بيت أهلي العامر اللي الكل داخل طالع!! ألحين هادي كأنه مقبرة!!!.
رحت لغرفتي ورميت عبايتي، كنت ناوية أتحمم وأغير ملابسي، وأستعد علشان أضم سارة لصدري بس ألحين غيرت رايي، ما أبي أشوف سارة، ما أبي أشعر إنها معتمدة علي في شيء، أبي أوكل أمرها لله، ونِعم بالله. أبخليها في وداعة الرحمن ومن يحفظ الودائع مثل الله! دخلت أمي وهمست بصوت واطي، قالت:
- العنود وش تبين تاكلين؟!!!
- ولاشيء.
قلتها بحزم وقوة.
- يمّه ما أبي شيء.
أمي أوّل كانت دايم تتابع أكلي وتجبرني إني آكل، حتى بعد ما تزوجت كانت تحرجني عند زوجي اللي كان يضحك من حرصها على أكلي، وكأني طفلة، بس اليوم ولأول مرة احترمت رغبتي وسكتت وكأنها تقول:
- ماله داعي الأكل ما دام آخرته للدود.
- يا بنيتي زوجك يبي يشوفك.
قلت بصوت عالي وكأني أكلمهم من العالم الآخر…
- لا ما أبي أشوفه.
وطلعت ورجعت مرة ثانية، قالت:
- ترى خالد يقول إذا وافقتي تشوفينه هو ينتظر في المجلس مع أخوك.
بس أنا قررت إني ما أعذب أحد وإني أقضي آخر أوقاتي لحالي، قلت:
- يمّه روحي… إن بغيتك ناديتك.
- أبقعد عندك أوسّع صدرك.
- يمّه ماني فاضية ووقتي قصير.
طلعت وأنا أتذكر الوقت اللي كنت أضيعه في أمور تافهة مثلاً مجلة الأزياء اللي اخترت موديل زواج ماجد منها، جلست في المكتبة ساعتين علشان أختارها وأشتريها، وألحين تركتها في المستشفى ونسيت رقم الصفحة، وما راح ألبس الفستان أبداً.
يا الله يا وقتي أثرك كنت غالي ألحين!!!! عندي أشياء كثيرة أبي أسويها بس ما عرفت!! زي الطالب إذا أعلن المدرس إنه باقي له عشر دقايق من وقت الامتحان، وهو ما بعد كتب في الورقة شيء، بيسلم ورقته قبل العشر الدقايق ما تنتهي، لأنه راح يتوه بين الأسئلة.
وأنا هذا شعوري أبدأ بإيش ولاّ إيش!! جلست أفكر شوي وطلّعت ورقة وقلم، قلت أبكتب وصية… وصية؟!!!! زي الأفلام اللي كنت أتابعها. يا ما سهرت أطالع ناس (أظنهم) أردى خلق الله، وهم يفتعلون حكايات تافهة مالها بالواقع صلة!! يا خسارة ذاك الوقت كان ربي نازل في السماء يقول: هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من داعي فأجيبه؟!!
يا خسارة ليتني قمت وصليت ودعيت إن الله يخليني لسارة وأبوها، يا ليتني على الأقل رحت لسارة وضميتها لصدري.
وفجأة رميت الورقة والقلم، وقمت وفتحت الدولاب، وطلعت فستان حرير كان خالد يحب يشوفه علي، ولبسته ولبست جزمة مناسبة، وفكيت شعري وطلعت دهن العود وحطيته على شعري، ووقفت قدام المراية وتأملت صورتي.
يا الله كم باقي من الوقت ويندس هالجمال في التراب؟!! كم باقي من الوقت وتمشي الحشرات على هالخد النظر؟!! كنت أعتني بجسمي، حمامات زيت وكريمات، وأكافح التجاعيد، بس ليتني وصلت لسن التجاعيد!! خسارة الوقت الممل اللي قضيته وأنا أوزّع شرائح الخيار على وجهي! يا خسارة! ليتني رحت قريت سورة من القرآن ولا لعبت مع سارة حبيبتي قبل لا تفقدني.
وقفت وطالعت جسمي هالجسم الممشوق بيتمدّد في القبر بعد ساعات. يا ترى ضلوعي هذي بتلتقي بضمة القبر؟! يا ترى رقبتي اللي يا ما رفعت راسي لفوق بتنحني على صدري؟! ولاّ بتغل إلى رجولي؟! وتذكرت كيف أصرّيت إني أنضم لنادي، وكيف احتلت على أبو سارة واستخدمت جميع الوسائل ليين سحبت منه الموافقة سحب، بالرغم من إنه ما كان موافق من قلبه، وكان كاره، ويقول:
- هالوقت أنا أولى به يا العنود .
بس لا زواج ماجد قرب، وكنت ناوية أكون فتنة الحفل فيه، وألحين الله ينجيني من فتنه الممات. طلّعت علبة مجوهراتي ومسكت خاتم كبير اشتريته أيام زواجي، كانت في الخاتم نقوش، تفحصت النقش، وطرا على بالي طاري… يا ترى أنا كنت أزكي عن هالذهب ولاّ لا؟! أظن أبو سارة كان يزكي عن ذهبي، أظن بس ماني متأكدة، ما قد سألته أبد، وتفحصت النقش مرّة ثانية وفركت جبهتي وأنا أتسال… يا ترى هالرسوم بتطبع في جبهتي وأكوى بها ولا بينجيني الله؟!!! تأملات غريبة طرت على بالي، ومشى الوقت بسرعة وأنا بين أدويتي المهدئة وبين صلواتي وقرآني.
في الليل طلعت من الغرفة ولقيت سجادة أمي عند الباب، أمي ما نامت تصلي وتدعي وجلست عندها والتفتت علي، نظراتها تجمع فيها حنان أمهات الدنيا كلها، ناظرتني نفس نظراتها لي يوم كنت طفلة، قالت:
- تبين شيء يا بنيتي؟!!
- يمّه أبي رضاكِ.
وانفجرت تبكي. بكت... بكت... وأنا تحجّرت الدموع في عيوني ولا دمعة هلّيتها، وانتظرت لين هدت، وقالت:
- أنا راضية عنّك يا بنتي. والله إنك من بين إخوانك كلهم أقل وحده تعبتني في الحمل والولادة والتربية، أنا راضية عنّك يا بنتي والله يرضى عنّك إن شاء الله.
تنهدت براحه وقمت من عندها ومشيت لمحت أختي طالعة من الغرفة، أختي من أسبوع ما شفتها، بس غطت وجهها بيدها وكأنها شايفة شبح، ودخلت لغرفتها بسرعة، ومشيت. كنت أدوّر في البيت مثل مومياء أعدّوها لتابوتها، أمشي ببطء.
كل أهل البيت سهرانين، وش هالليلة الغريبة؟! كل واحد ماخذ له زاوية وجالس لحالة، هالليلة تشبه ليلة السفر، صح هي فعلاً ليلة سفر، وتذكرت كيف كنت أقلق في كل ليلة سفر ولا أنام، صحيح إن سفري كان سياحة إلاّ إني أتقلب في فراشي، وكل شوي أروح أتاكد إن أغراضي جاهزة.
يووه اليوم سفرتي غير، سفرتي ما فيها رجعة، ومفاجأة وماني مستعدة لها أبد.
مشيت على صوت ترتيل أخوي محمد للقرآن، كنت أتّبع الصوت لين دخلت عليه، محمد أعز إخواني على قلبي. ما أنسى أول أيام التزامه كيف كانوا أهلي يعلقون عليه بحجة إنه متشدد، وكنت أشجعه، أعرف إن هذا صالحه دنيا وآخرة، وقلت له يصبر عليهم ويحتسب، وهو الربحان في الأخير.
وفعلاً بدا يجني ثمار صبره وألحين الكل يثق فيه وياخذ شوره.
جلست جنبه وهو يقرأ تغيرت نبرة صوته يوم دخلت وبدت تتذبذب، وباين كيف كان يكافح علشان يثبتها في مستوى واحد وارتفع صوته علشان يسيطر على ضعفه، وأنهى السورة والتفت علي، قلت:
- محمد… وش أنا مقبلة عليه؟!!
ابتسم بحماس ودموعه تهل وقعد يحكي لي عن رحمه الله، وهو محافظ على ابتسامته الطيبة بالرغم من دموعه، وحكى لي كيف إن الله رحيم بعباده، وإنه أحن عليهم من الأم على ولدها، قلت:
- محمد كيف الموت؟!!!
- إن شاء الله بيكون سهل كــ…..
وقاطعته وقلت:
- محمد وش البرزخ؟!!!!
كنت أفكر بصوت عالي وأبي أحد يسمعني، بس قال:
- البرزخ هي الحياة بين الدنيا والآخرة و....
- محمد كيف بيكون حالي فيها إذا ما دعيتوا لي؟!!!
ورفع يدينه للسماء واجتهد بالدعاء، وأنا طلعت من عنده، وبدون لا أشعر ساقتني رجليني للمجلس، كنت أبي أعرف أبو سارة هناك ولاّ راح ينام على سريره اللي أعرف إنّه ما يرتاح إلاّ عليه، وجا في بالي فكرة… يا ترى بيتزوج بعدي؟!!!! أكيد أنا أعرف أبو سارة ما يحب الوحدة… يا خساااارة.
دخلت المجلس ورفع راسه لي تمنيت إني ما لقيته، وتراجعت وناداني، قال:
- العنود تعالي يا حبي الأول والأخير.
وبكى ساعتها بس بكيت، أنا كنت عارفة إني ما راح أتحمل شوفته هو بالذات، قلت:
- ما لك عندي شيء يا خالد خلاص الموت بيخطفني منك اليوم، يمكن أشوفك في الجنة كاننا من أهلها إن شاء الله.
- إن شاء الله إنك من أهلها، أنا راضي عنك يا العنود، ومن ماتت وزوجها عنها راضي دخلت الجنة.
- بس أنا كنت مقصرة معك كثير.
- بالعكس حياتي معك كانت حلم جميل، ما تمنيت إني أفيق منه يا العنود. كل شيء معك كان له طعم حتى زعلك ودموعك وغضبك، كنت في جنة يا العنود، وكنت متأكد إنها ما راح تستمر السعادة اللي كنت فيها… العنوووود والله ما أنساااكِ.
وحرّك يده بقوة وصرخ:
- والله العظيم ما تغيبين عن بالي.
وهو يحلف أنا كنت أتخيله وهو ماسك يد عروسه الجديدة، ويطالعها بفرح وهي تبادله النظرات!! خسارة كان زوج نموذجي وكنت أحبه، خسارة… الله يخلفه علي، وقمت طلعت وكملت رحلتي الكئيبة.
هالمرة وقفت عند الباب اللي سارة تنام وراه، وقفت وأنا أحاول أبلع عبرتي، تردّدت أدخل ولاّ لا. سارة كانت متعلقة فيني كثير أوّل أيام مرضي، كانت تبكي طول الليل تبيني، بس في الأخير رضخت للظروف وتعلمت كيف تنام بعيد عن حضني، حاولت إني ما أدخل علشان خاطرها، ليش أقلب مواجعها؟!! بس حسيت إني إذا ما شفتها بتتحول آخر ساعاتي إلى ثواني، ولأول مرة أتصرف بأنانية وأفتح الباب وأدخل، كانت أختي نورة تنام جنبها على الأرض، وجلست وانحنيت على سارة وشمّيتها.
يا حبيبتي يا سارة، وحسّت أختي نورة فيني، وقامت مرتاعة وقالت: العنود؟!!!.
نورة ماشفتها من كم أسبوع بس ما سلمت عليها، كنت أودّع العالم وماني فاضية أسلم، قلت:
- نورة أنا أبنام جنب سارة اليوم.
وابتعدت وهي مترددة، وتمدّدت جنب سارة وضميتها وبكيت، والتفت على نورة، قلت:
- نورة تراني كان ودي أشوف سارة وهي تكبر، كنت أتمنى أشوفها عروس، قولي لها في يوم زواجها يا نورة. الله يخليكِ كنت أبيهم يذكروني ويترحمون علي بس في ذاك اليوم.
ولاّ سارة ما أظن إنها بتهل دمعتها علي لأنها ما عرفتني زين، تذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إن الابن الصالح ينفع والديه، والتفت على سارة، ودّي أصب عليها التربية كلها في ذيك الساعة كنت أبيها تطلع صالحة. وتمددت جنبها.
وما أدري كم من الوقت مر؟!! ولأوّل مرّة أسمع صوت أذان الفجر ولا أقدر أتحرك، أحس رجولي مكبلة كأني في كابوس، عيني ثابتة على سقف الغرفة. حاولت أتحرك ما قدرت وصورة سارة في عيوني وهي نايمة، كنت أبي أضمها ثانية ما شبعت منها.
أغيب عن الوعي وأصحا ثانية، شفت العالم يصرخون حواليني، غرفة بنتي الهادية امتلت بالناس اللي يبكون، هذي أمي وهذا أخوي محمد وهذا زوجي وهذا واحد ما أعرفه، أظنه طبيب.
جسمي الغض كان متشنج، والتفت سيقاني ببعض، كنت أبي أبكي أستغيث بس ما أقدر أتحرك، قلبني الطبيب يمين ويسار كنّي خرقة بين يديه،
وكلّم أهلي وسمعت صوت بكاء شديد.
ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا
والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل إن تكون إذا بكوا
في يوم موتك ضاحكا مسرورا
وهنا حسيت بقبلة رطبة على خدي، وفتحت عيوني، لقيت وجه قريب من وجهي، وابتسامه هبلا!!!
سارة!! هذي سارة بنتي!! ضمّيتها وبكيت… بكيت… وش صار؟! وين أنا فيه؟!! وسمعت صوت خالد من دورة المياه، وهو يغسل، ويقول:
- العنود وش فيكِ رجعت لك كوابيسك مرة ثانية؟!! تعوذي من الشيطان وقومي يا الله أنا ألغيت كل مواعيدي علشان أوديكِ للخياطة.
وحمدت الله إن هذا كان حلم، وإني إلى الآن أقدر أضم سارة، قلت:
- لا ما أبي أروح للخياطة؟! ما أبي أترككم يا خالد.
طلع من دورة المياه، وهو مبتسم بتعجب، وقال:
- وزواج ماجد؟!!!
- عندي فستان عادي أبلبسه.
وابتسم وكأنه مو مصدق كلامي وفتحت الشباك وشفت العصافير، واستنشقت هواء نقي، وحمدت الله إن ذيك الليلة الرهيبة كانت حلم، بس حلم ممكن يصير من يضمن حياته؟!! وقررت إني أستعد لها من اليوم.
-----------------------------------
لولا الهرم و الفقر و الثالث الموت
يـا الآدمي بالكون يا عظم شانك
سخّرت ذرات الهوا تفهم الصوت
وخـليتها أطوع من تحرك بنانك
جـماد تكلمها وهي وسط تابوت
تـاخذ وتعطي ما صدر من بيانك
وعزمت من فوق القمر تبني بيوت
مـن يقهرك لو هو طويل زمانك
لـولا الثلاث وشان من قدر الفوت
نــــفذت كل اللي يقوله لسانك
---------------------------------</font>
خايفة من بكره… ما أدري ليش؟!!!.
ابتسمت وأنا أتذكر زوجي، كان يقول:
- لا تخافين يا العنود الطب تطور، وأَبلف بك العالم لين تشفين، لا تخافين أنا معك.
ابتسمت وأنا أتذكر كلامه والخوف اللي بنظراته وهو يحاول يطمني. أمي يا حبيلك يا يمّه… طول الليل كانت تصلي وكل ما فتحت عيوني سمعت صوت همساتها تدعي لي، وتتضرع لله. يا حبيلك يا يمّه ويا حبيلي لعيونك اللي مَورْمه من البكاء، بالرغم من أنّي ما أشوفها وهي تبكي.
أشياء كثيرة تغيرت هالأيام، زوّاري كلهم تغيروا، ما عاد يجيني أحد من سني، لا ما عاد أشوف إلاّ كبار العايلة اللي يتصفون بالدين والعقل. شيء غريب!! ما أدري وش سببه؟! حتى الأحاديث اللي تطرح في غرفتي كلها عن قوة الإيمان والصبر.
وما عاد أحد يذكر لي الأمل في الشفاء، ولا أخبار العايلة!! بنت عمي ولدت ما دريت إلاّ بالصدفة، سمعت وحدة تبارك لأمها في زيارتي.. وش صاير؟!!!!! والله شكيت أنهم يعرفون عني شيء أنا ما أعرفه! يعني يمكن الطبيب قال في حالتي شيء؟!!!.
بس طردت وساوسي بحجة إن الطب تطور، والطبيب شكله مطّمّن علي، وزوجي يقول إني بَشفى إن شاء الله أكيد.
قطع صوت أمي حبل أفكاري، وهي تناديني:
- العنود قومي وأنا أمك صلّي.
ابتسمت وأنا أتذكر كيف أمي تغيرت. أمي أوّل من كثر حبها لي في البرد إذا أذّن الفجر تهمس في أذني إني أصلي، وكنها ودها إني ما أسمعها، وإذا ما قمت تعيمت عني وسكتت وابعدت، وهي تدعي إن الله يهديني. غريبة من بداية مرضي وهي حريصة على صلاتي، تقومني بصوت حزين مستسلم، ابتسمت وقلت لها:
- أنا قايمة يمّه.
تنهدت وقالت:
- الله يشفيك يا بنيتي.
قلت:
- يمّه… ليش أنتِ حزينة؟! ترى أنا طيبة، والله ما فيني إلاّ العافية بالذات اليوم.
وطلعت أمي وأنا أكلمها وتركتني. استغربت، وسكت، وقمت أصلي. يوم سلّمت وقبل لا أقوم عن سجادتي إلاّ باب الغرفة يدق الفجر!!! من جاي هالوقت؟!!! شفت أخوي الكبير محمد يطل من الباب. ابتسامته تنوّر وجهه الملتحي، بس ابتسامته كلها حزن. قال:
- كيف حالك يا الغالية اليوم؟!.
وسلّم على أمي وانحنى يسلم على يدها، قلت:
- الحمد لله بخير اليوم أنا طيبه، وأظنهم اليوم بيطلعوني. عندي إحساس.
الغريب بالرغم من إني كنت أبي أفرحه إلاّ أنه التفت عني وراح للشباك، وفتحه ووقف عنده شوي وهو يتنفس بعمق ويذكر الله. وكأنه يحاول يطرد الشيطان، بعدين قال بدون ما يرفع عينه من الأرض:
- ودّي أغيّر اتجاه سريرك يا العنود.
وقبل لا أرد حرّك السرير وخلاّه من جهة القبلة… ابتسمت، قلت:
- لييش؟!!!!!!!!.
قال وهو ما رفع عينه من الأرض وبصوت مرتعش:
- أفضل علشان إذا دعيتي الله تكونين مواجهة للقبلة.
قلت وأنا أضحك :
- محمد أخاف ذي بدعة، انتبه.
ولا رد علي، حط مصحف جنب سريري وخرج وتركني، ولحقته أمي، وأنا ابتسمت وأنا أتذكر المناقشات الحادة اللي كانت تدور بينا في أمور الدين. كان دايم ينصحني ويوعظني، وأنا بالرغم من إني أحترمه إلاّ أني كنت أناقشه في أي فكرة يقولها، وأقول اللي في خاطري، وهو كان متقبّل للمناقشة ويرد برحابة صدر.
رجعت لسريري وتمددت عليه، فعلاً هالمكان أحسن من الأول، هنا أقدر أشوف الحديقة اللي برّا، وأشوف العصافير تغرد في الصبح. تذكرت شباك غرفة بنتي سارة، أكيد العصافير متجمعة عنده ألحين. يا ما أزعجتني أصوات تغريدها، وفتحت الشباك علشان أفرّقها، لا تقوم حبيبتي سارة وترتاع. يوه… وينك يا سارة؟! بكرة بتنامين في حضني إن شاء الله، وأبعوضك عن الأيام اللي قضيتها بعيدة عنّك في المستشفى، بكرة أبشم ريحتك يا عمري.
دخلت أمي، قلت:
- يمّه سارة تراها الأيام الأخيرة تجيها كوابيس، عساك وصيتي نورة عليها لا تفارقها لو دقيقة في الليل لين أجي.
قالت أمي:
- ما عليكِ أنتِ، سارة مرتاحة، فكري بنفسك بس.
تمددت على سريري وأنا أطالع الساعة على الحائط، الدكتور بيجي الساعة 10 وأبقوله إني أبطلع خلاص، ماله داعي أربك أهلي وزوجي أكثر من كذا، خاصة أخوي ماجد قرّب عرسه. وسحبت مجلة أزياء، وفتحت على صفحه الموديل اللي اخترته لزواج أخوي ماجد، واتخيلت شكلي وأنا لابسته، يوووه أبقهر كثير من البنات اللي ينافسوني في العايلة، أبكسر عينهم
وقعدت أفكر… كيف أقنع الخياطة علشان توافق تخيطه بسرعة؟! وغفيت.
وقمت على صوت أخوي محمد يقرأ قرآن عند راسي، وفتحت عيوني، وابتسمت له، قلت:
- محمد ما بعد رحت البيت؟!!! يوه وعملك؟!!!!.
مارد علي وكمّل قراية لين ختم السورة، وهذا أبو سارة زوجي الحبيب اللي مسك يدي، وقال وهو يبتسم بحنان:
- هاه العنود… عساكِ ما حسيتي بشيء؟!
استغربت من سؤاله! قلت:
- لا أنا يا خالد طيبة، ما فيني إلاّ العافية، وودي أطلع الصراحة.
قال: الله يشفيكِ.
وابتعد عني بسرعة لا أشوف دموعه، وفي هاللحظة سمعنا دقات على الباب، ودخلت الممرضة لتعلن وصول الطبيب. وفي هاللحظة زوجي نقز من مكانه كأنّه مقروص، وخرج بسرعة مثل الواحد اللي يبي يهرب، أما أنا فرحت قلت للممرضة بحماس:
- خلّيه يدخل أنا جاهزة.
ودخل الطبيب، طبيبي يشبه أخوي محمد كثير، مسلم ملتزم ملتحي ومحترم، ما أذكر مرّة إنه رفع عينه في عيني إلاّ للضرورة، وأنا أستحي منه مرّة، بس أثق فيه وأعتبره زي أخوي، قال:
- هاه كيف حالك يا العنود؟!
- الحمد لله يا دكتور، أنا اليوم أفضل يوم لي من بداية مرضي، وأبي أطلع خلاص، اشتقت لبيتي.
أخوي في هاللحظة طلع بسرعة وأمي لحقته وتركوني لحالي مع الطبيب والممرضة، الظاهر كانوا يتوقعون انفجار لغم. قال الطبيب بوجه جامد ما فيه من الإحساس ذرّه، وكأنه مو هو اللي يتكلم إلاّ كأنه يحكي بلغه هو نفسه ما يعرفها، قال:
- العنود أنا بكتبلك خروج.
ونوّر وجهي بابتسامة وأنا أدس يديني تحت الغطوة لا يشوفها الطبيب، وكمّل كلامه بوجه جامد:
- العنود أنتِ وحدة مؤمنة وأكيد عارفة إن الموت حق.
وسكت.
تسارعت أنفاسي وأنا أقول:
- إيه… كمّل يا دكتور.
- حالتك ميؤوس منها، وبطلعك علشان تقضين آخر أيامك في المكان اللي تحبينه.
ورجع لصمته وسكت الطبيب، وسكت كل شيء في الغرفة، بس أنا ما عاد أسمع إلاّ صوت أنفاسي وصوت أكوااام الأمل اللي انهدت في قلبي، ومن الصدمة رميت غطوتي بعيد وقمت بحماس، وكأني بدافع عن حياتي، وكأن الطبيب هو اللي يبي يسلبها مني، وانحنيت، ولأول مرة أحط عيني في عين طبيبي اللي ما رفعها عن الأرض، وقلت بحماس:
- دكتور!!! لا تقول كذا أنا طيبة! دكتور!!! وش هالكلام؟!!! دكتووور كيف الطب يعجز عن حالتي أنا؟!!!!! أنا؟!!! أصلاً أبو سارة قال إنّه بيلف بي العالم!!! كيف المرض ينتصر على شبابي وحيويتي؟!! أنا أقوى منه أكيد.
- يا العنود الموت والحياة بيد الله، والطب وسيلة، وما أدري؟! يمكن يبقالك ساعات أو أيام أو أسابيع؟! بس حالتك يا العنود ما عاد نقدر نسيطر عليها.
وسكت.
وقبل لا يطلع قال، وكأنه يبي يخفف عني:
- وأبعطيك أقوى المهدئات ولا راح تحسين بالألم في باقي أيامك إن شاء الله.
حسّيت ساعتها إني مجوفة فاضية من الداخل، حسيت الدنيا سوداء حواليني، وبدت تتضح لي صور من بعيد في مخيلتي، أول صورة شفتها كانت صورة سارة بنتي وهي تضحك وعمرها شهور. وبعدين شفت صورة زواجي وأنا لابسة أبيض وزوجي ماسك يدي بفخر، وهذي أمي وهذي زميلتي في المدرسة شفتها، مع إني من بداية الصيف ما قابلتها ولا كلمتها، وهذولا عصافير غرفة سارة. وآخر صورة شفتها قبل لا أفوق كانت فستان زواج ماجد اللي اخترته من مجلة الأزياء.
حسيت باختناق وضيق، هذا حضن أمي اللي دخلت علي وضمتني، وأبعدها عني بقوة وقاومت علشان أتخلص من حضنها، وسمعت صوت زوجي يكلم الطبيب عند الباب، طالعت أمي بعصبية، وقلت:
- يمّه ما أبي أشوف خالد.
كانت رغباتي أوامر في ذيك الساعة، ركضت أمي وردّته من عند الباب، ما كنت أبي أشوفه، كنت متأكدة إني ما راح أتحمل شوفته هو بالذات، حسّيت إنه بيذكرني بأيام الرخاء وأنا ألحين في شدة. وينكم يا أهلي؟!! بس ما أبي غيركم. ما بكيت ولا نزلت مني ولا دمعة، وكأن الخبر كان فوق مستوى البكاء، بالعكس تحمست وقلت:
- يا الله أبطلع.
أكملت إجراءات خروجي، وقبل لا أطلع جت المريضة اللي بتاخذ غرفتي، طالعت عيونها فيها بريق أمل تختلف تماماً عن نظرتي أنا، كانت نظرتي ميتة عميقة مالها لمعة. سبحان الله للأمل بريق في العيون. وطلعت قلت لأخوي:
- محمد ما أبي بيتي، أبي أروح لغرفتي قبل لا أعرف خالد.
وفعلاً أخوي بدون أوامري كان رايح لبيت أهلي. ونزلت ودخلت البيت بس ما لقيت في استقبالي إلا خواتي الكبار!! والبيت كأنهم أخلوه لي! هذا بيت أهلي العامر اللي الكل داخل طالع!! ألحين هادي كأنه مقبرة!!!.
رحت لغرفتي ورميت عبايتي، كنت ناوية أتحمم وأغير ملابسي، وأستعد علشان أضم سارة لصدري بس ألحين غيرت رايي، ما أبي أشوف سارة، ما أبي أشعر إنها معتمدة علي في شيء، أبي أوكل أمرها لله، ونِعم بالله. أبخليها في وداعة الرحمن ومن يحفظ الودائع مثل الله! دخلت أمي وهمست بصوت واطي، قالت:
- العنود وش تبين تاكلين؟!!!
- ولاشيء.
قلتها بحزم وقوة.
- يمّه ما أبي شيء.
أمي أوّل كانت دايم تتابع أكلي وتجبرني إني آكل، حتى بعد ما تزوجت كانت تحرجني عند زوجي اللي كان يضحك من حرصها على أكلي، وكأني طفلة، بس اليوم ولأول مرة احترمت رغبتي وسكتت وكأنها تقول:
- ماله داعي الأكل ما دام آخرته للدود.
- يا بنيتي زوجك يبي يشوفك.
قلت بصوت عالي وكأني أكلمهم من العالم الآخر…
- لا ما أبي أشوفه.
وطلعت ورجعت مرة ثانية، قالت:
- ترى خالد يقول إذا وافقتي تشوفينه هو ينتظر في المجلس مع أخوك.
بس أنا قررت إني ما أعذب أحد وإني أقضي آخر أوقاتي لحالي، قلت:
- يمّه روحي… إن بغيتك ناديتك.
- أبقعد عندك أوسّع صدرك.
- يمّه ماني فاضية ووقتي قصير.
طلعت وأنا أتذكر الوقت اللي كنت أضيعه في أمور تافهة مثلاً مجلة الأزياء اللي اخترت موديل زواج ماجد منها، جلست في المكتبة ساعتين علشان أختارها وأشتريها، وألحين تركتها في المستشفى ونسيت رقم الصفحة، وما راح ألبس الفستان أبداً.
يا الله يا وقتي أثرك كنت غالي ألحين!!!! عندي أشياء كثيرة أبي أسويها بس ما عرفت!! زي الطالب إذا أعلن المدرس إنه باقي له عشر دقايق من وقت الامتحان، وهو ما بعد كتب في الورقة شيء، بيسلم ورقته قبل العشر الدقايق ما تنتهي، لأنه راح يتوه بين الأسئلة.
وأنا هذا شعوري أبدأ بإيش ولاّ إيش!! جلست أفكر شوي وطلّعت ورقة وقلم، قلت أبكتب وصية… وصية؟!!!! زي الأفلام اللي كنت أتابعها. يا ما سهرت أطالع ناس (أظنهم) أردى خلق الله، وهم يفتعلون حكايات تافهة مالها بالواقع صلة!! يا خسارة ذاك الوقت كان ربي نازل في السماء يقول: هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من داعي فأجيبه؟!!
يا خسارة ليتني قمت وصليت ودعيت إن الله يخليني لسارة وأبوها، يا ليتني على الأقل رحت لسارة وضميتها لصدري.
وفجأة رميت الورقة والقلم، وقمت وفتحت الدولاب، وطلعت فستان حرير كان خالد يحب يشوفه علي، ولبسته ولبست جزمة مناسبة، وفكيت شعري وطلعت دهن العود وحطيته على شعري، ووقفت قدام المراية وتأملت صورتي.
يا الله كم باقي من الوقت ويندس هالجمال في التراب؟!! كم باقي من الوقت وتمشي الحشرات على هالخد النظر؟!! كنت أعتني بجسمي، حمامات زيت وكريمات، وأكافح التجاعيد، بس ليتني وصلت لسن التجاعيد!! خسارة الوقت الممل اللي قضيته وأنا أوزّع شرائح الخيار على وجهي! يا خسارة! ليتني رحت قريت سورة من القرآن ولا لعبت مع سارة حبيبتي قبل لا تفقدني.
وقفت وطالعت جسمي هالجسم الممشوق بيتمدّد في القبر بعد ساعات. يا ترى ضلوعي هذي بتلتقي بضمة القبر؟! يا ترى رقبتي اللي يا ما رفعت راسي لفوق بتنحني على صدري؟! ولاّ بتغل إلى رجولي؟! وتذكرت كيف أصرّيت إني أنضم لنادي، وكيف احتلت على أبو سارة واستخدمت جميع الوسائل ليين سحبت منه الموافقة سحب، بالرغم من إنه ما كان موافق من قلبه، وكان كاره، ويقول:
- هالوقت أنا أولى به يا العنود .
بس لا زواج ماجد قرب، وكنت ناوية أكون فتنة الحفل فيه، وألحين الله ينجيني من فتنه الممات. طلّعت علبة مجوهراتي ومسكت خاتم كبير اشتريته أيام زواجي، كانت في الخاتم نقوش، تفحصت النقش، وطرا على بالي طاري… يا ترى أنا كنت أزكي عن هالذهب ولاّ لا؟! أظن أبو سارة كان يزكي عن ذهبي، أظن بس ماني متأكدة، ما قد سألته أبد، وتفحصت النقش مرّة ثانية وفركت جبهتي وأنا أتسال… يا ترى هالرسوم بتطبع في جبهتي وأكوى بها ولا بينجيني الله؟!!! تأملات غريبة طرت على بالي، ومشى الوقت بسرعة وأنا بين أدويتي المهدئة وبين صلواتي وقرآني.
في الليل طلعت من الغرفة ولقيت سجادة أمي عند الباب، أمي ما نامت تصلي وتدعي وجلست عندها والتفتت علي، نظراتها تجمع فيها حنان أمهات الدنيا كلها، ناظرتني نفس نظراتها لي يوم كنت طفلة، قالت:
- تبين شيء يا بنيتي؟!!
- يمّه أبي رضاكِ.
وانفجرت تبكي. بكت... بكت... وأنا تحجّرت الدموع في عيوني ولا دمعة هلّيتها، وانتظرت لين هدت، وقالت:
- أنا راضية عنّك يا بنتي. والله إنك من بين إخوانك كلهم أقل وحده تعبتني في الحمل والولادة والتربية، أنا راضية عنّك يا بنتي والله يرضى عنّك إن شاء الله.
تنهدت براحه وقمت من عندها ومشيت لمحت أختي طالعة من الغرفة، أختي من أسبوع ما شفتها، بس غطت وجهها بيدها وكأنها شايفة شبح، ودخلت لغرفتها بسرعة، ومشيت. كنت أدوّر في البيت مثل مومياء أعدّوها لتابوتها، أمشي ببطء.
كل أهل البيت سهرانين، وش هالليلة الغريبة؟! كل واحد ماخذ له زاوية وجالس لحالة، هالليلة تشبه ليلة السفر، صح هي فعلاً ليلة سفر، وتذكرت كيف كنت أقلق في كل ليلة سفر ولا أنام، صحيح إن سفري كان سياحة إلاّ إني أتقلب في فراشي، وكل شوي أروح أتاكد إن أغراضي جاهزة.
يووه اليوم سفرتي غير، سفرتي ما فيها رجعة، ومفاجأة وماني مستعدة لها أبد.
مشيت على صوت ترتيل أخوي محمد للقرآن، كنت أتّبع الصوت لين دخلت عليه، محمد أعز إخواني على قلبي. ما أنسى أول أيام التزامه كيف كانوا أهلي يعلقون عليه بحجة إنه متشدد، وكنت أشجعه، أعرف إن هذا صالحه دنيا وآخرة، وقلت له يصبر عليهم ويحتسب، وهو الربحان في الأخير.
وفعلاً بدا يجني ثمار صبره وألحين الكل يثق فيه وياخذ شوره.
جلست جنبه وهو يقرأ تغيرت نبرة صوته يوم دخلت وبدت تتذبذب، وباين كيف كان يكافح علشان يثبتها في مستوى واحد وارتفع صوته علشان يسيطر على ضعفه، وأنهى السورة والتفت علي، قلت:
- محمد… وش أنا مقبلة عليه؟!!
ابتسم بحماس ودموعه تهل وقعد يحكي لي عن رحمه الله، وهو محافظ على ابتسامته الطيبة بالرغم من دموعه، وحكى لي كيف إن الله رحيم بعباده، وإنه أحن عليهم من الأم على ولدها، قلت:
- محمد كيف الموت؟!!!
- إن شاء الله بيكون سهل كــ…..
وقاطعته وقلت:
- محمد وش البرزخ؟!!!!
كنت أفكر بصوت عالي وأبي أحد يسمعني، بس قال:
- البرزخ هي الحياة بين الدنيا والآخرة و....
- محمد كيف بيكون حالي فيها إذا ما دعيتوا لي؟!!!
ورفع يدينه للسماء واجتهد بالدعاء، وأنا طلعت من عنده، وبدون لا أشعر ساقتني رجليني للمجلس، كنت أبي أعرف أبو سارة هناك ولاّ راح ينام على سريره اللي أعرف إنّه ما يرتاح إلاّ عليه، وجا في بالي فكرة… يا ترى بيتزوج بعدي؟!!!! أكيد أنا أعرف أبو سارة ما يحب الوحدة… يا خساااارة.
دخلت المجلس ورفع راسه لي تمنيت إني ما لقيته، وتراجعت وناداني، قال:
- العنود تعالي يا حبي الأول والأخير.
وبكى ساعتها بس بكيت، أنا كنت عارفة إني ما راح أتحمل شوفته هو بالذات، قلت:
- ما لك عندي شيء يا خالد خلاص الموت بيخطفني منك اليوم، يمكن أشوفك في الجنة كاننا من أهلها إن شاء الله.
- إن شاء الله إنك من أهلها، أنا راضي عنك يا العنود، ومن ماتت وزوجها عنها راضي دخلت الجنة.
- بس أنا كنت مقصرة معك كثير.
- بالعكس حياتي معك كانت حلم جميل، ما تمنيت إني أفيق منه يا العنود. كل شيء معك كان له طعم حتى زعلك ودموعك وغضبك، كنت في جنة يا العنود، وكنت متأكد إنها ما راح تستمر السعادة اللي كنت فيها… العنوووود والله ما أنساااكِ.
وحرّك يده بقوة وصرخ:
- والله العظيم ما تغيبين عن بالي.
وهو يحلف أنا كنت أتخيله وهو ماسك يد عروسه الجديدة، ويطالعها بفرح وهي تبادله النظرات!! خسارة كان زوج نموذجي وكنت أحبه، خسارة… الله يخلفه علي، وقمت طلعت وكملت رحلتي الكئيبة.
هالمرة وقفت عند الباب اللي سارة تنام وراه، وقفت وأنا أحاول أبلع عبرتي، تردّدت أدخل ولاّ لا. سارة كانت متعلقة فيني كثير أوّل أيام مرضي، كانت تبكي طول الليل تبيني، بس في الأخير رضخت للظروف وتعلمت كيف تنام بعيد عن حضني، حاولت إني ما أدخل علشان خاطرها، ليش أقلب مواجعها؟!! بس حسيت إني إذا ما شفتها بتتحول آخر ساعاتي إلى ثواني، ولأول مرة أتصرف بأنانية وأفتح الباب وأدخل، كانت أختي نورة تنام جنبها على الأرض، وجلست وانحنيت على سارة وشمّيتها.
يا حبيبتي يا سارة، وحسّت أختي نورة فيني، وقامت مرتاعة وقالت: العنود؟!!!.
نورة ماشفتها من كم أسبوع بس ما سلمت عليها، كنت أودّع العالم وماني فاضية أسلم، قلت:
- نورة أنا أبنام جنب سارة اليوم.
وابتعدت وهي مترددة، وتمدّدت جنب سارة وضميتها وبكيت، والتفت على نورة، قلت:
- نورة تراني كان ودي أشوف سارة وهي تكبر، كنت أتمنى أشوفها عروس، قولي لها في يوم زواجها يا نورة. الله يخليكِ كنت أبيهم يذكروني ويترحمون علي بس في ذاك اليوم.
ولاّ سارة ما أظن إنها بتهل دمعتها علي لأنها ما عرفتني زين، تذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إن الابن الصالح ينفع والديه، والتفت على سارة، ودّي أصب عليها التربية كلها في ذيك الساعة كنت أبيها تطلع صالحة. وتمددت جنبها.
وما أدري كم من الوقت مر؟!! ولأوّل مرّة أسمع صوت أذان الفجر ولا أقدر أتحرك، أحس رجولي مكبلة كأني في كابوس، عيني ثابتة على سقف الغرفة. حاولت أتحرك ما قدرت وصورة سارة في عيوني وهي نايمة، كنت أبي أضمها ثانية ما شبعت منها.
أغيب عن الوعي وأصحا ثانية، شفت العالم يصرخون حواليني، غرفة بنتي الهادية امتلت بالناس اللي يبكون، هذي أمي وهذا أخوي محمد وهذا زوجي وهذا واحد ما أعرفه، أظنه طبيب.
جسمي الغض كان متشنج، والتفت سيقاني ببعض، كنت أبي أبكي أستغيث بس ما أقدر أتحرك، قلبني الطبيب يمين ويسار كنّي خرقة بين يديه،
وكلّم أهلي وسمعت صوت بكاء شديد.
ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا
والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل إن تكون إذا بكوا
في يوم موتك ضاحكا مسرورا
وهنا حسيت بقبلة رطبة على خدي، وفتحت عيوني، لقيت وجه قريب من وجهي، وابتسامه هبلا!!!
سارة!! هذي سارة بنتي!! ضمّيتها وبكيت… بكيت… وش صار؟! وين أنا فيه؟!! وسمعت صوت خالد من دورة المياه، وهو يغسل، ويقول:
- العنود وش فيكِ رجعت لك كوابيسك مرة ثانية؟!! تعوذي من الشيطان وقومي يا الله أنا ألغيت كل مواعيدي علشان أوديكِ للخياطة.
وحمدت الله إن هذا كان حلم، وإني إلى الآن أقدر أضم سارة، قلت:
- لا ما أبي أروح للخياطة؟! ما أبي أترككم يا خالد.
طلع من دورة المياه، وهو مبتسم بتعجب، وقال:
- وزواج ماجد؟!!!
- عندي فستان عادي أبلبسه.
وابتسم وكأنه مو مصدق كلامي وفتحت الشباك وشفت العصافير، واستنشقت هواء نقي، وحمدت الله إن ذيك الليلة الرهيبة كانت حلم، بس حلم ممكن يصير من يضمن حياته؟!! وقررت إني أستعد لها من اليوم.
-----------------------------------
لولا الهرم و الفقر و الثالث الموت
يـا الآدمي بالكون يا عظم شانك
سخّرت ذرات الهوا تفهم الصوت
وخـليتها أطوع من تحرك بنانك
جـماد تكلمها وهي وسط تابوت
تـاخذ وتعطي ما صدر من بيانك
وعزمت من فوق القمر تبني بيوت
مـن يقهرك لو هو طويل زمانك
لـولا الثلاث وشان من قدر الفوت
نــــفذت كل اللي يقوله لسانك
---------------------------------</font>