بن دبي
18-06-03 ||, 01:09 PM
<font color='#000000'>هذا الموضوع عن الصحراء
انشاء لله يعيبكم
عند ذكر كلمة البادية عادة ما يتبادر للذهن صحراء قاحلة شديدة القسوة، وهي، اذ ذاك، اما انها سهوب شاسعة جرداء او كثبان رمال متحركة.. لا تكاد ترى فيها للنبات ظلا ولا تسمع للحياة نفسا الا ما ندر ويطبق على فيافيها الواسعة الصمت لا من اصوات هزير الرياح! ودرجت العادة ايضا على القول ان الترحال والتنقل الدائم بحثا عن الماء والكلأ هي السمات الرئيسية المميزة لسكانها اللذين يسمون البدو الرحل.
ولعل الانطباع السابق عن الصحراء، التي شكلت اصعب التحديات على الانسان من أي منطقة أخرى على وجه الارض، لا تجافيه الحقيقة الا في قصر التسمية "البدو" على أولئك الناس الذين قال عنهم مستكشف أوروبي "الشعلة التي أضاءت الصحراء" فالبادية ليست فقط الرمال والجدب والسهوب، وهي بدون شك ليست فقط تلك الفيافي التي يستعصي فيها على النظر التمييز بين السراب والغدير.
فعلى تخوم صحراء الربع الخالي قامت مناطق استيطان مستقرة اتخذت من بطون الوديان بين كثبان الرمال او في مجاري السيول قرب الجبال او عند التقاء الصحراء والبحر مراكز تجمعات سكانية لها حضور ثقافي وحضاري منذ القدم.. خاصة مناطق الحافة الشرقية والجنوبية الشرقية لصحراء الجزيرة العربية. وتعتبر واحات النخيل، ووديان شجر الغاف، والقرى الساحلية ابرز هذه المناطق السكانية، حيث تشكل النخلة، في الاولي، مصدر غذاء رئيسيا فضلا عن استخدامات أخرى كثيرة ؟ وتدور انشطة سكان وديان الغاف حول قوافل الجمال ورعي الماشية ؟ بينما يأتي البحر في القرى الساحلية على رأس اهم مصادر كسب الرزق. واذ ذاك، فان المناطق الثلاث ليست بعيدة عن الطبيعة القاحلة والشمس الحارقة وخواء الارض الذي عرفت به الصحراء. واهلها وان لم يمضوا حياتهم متنقلين وراء العشب والمياه، الا انها لم تكن بمنأى عن المكابدة العظيمة التي يعانيها البدو الرحل، وبالتالي فهم لا يختلفون عنهم بشيء، وان اختلفت انماط حياتهم ومصادر رزقهم بعض الشيء.. لا سيما وان معظمهم ينتسبون لنفس القبائل.
ويقال ايضا ان نمط حياة الانسان البدوي وعالمه المحكوم باعراف وتقاليد القبيلة لا تسمح له بالخضوع لقانون أو سلطة! لكنهم ينسون ان البدوي انسان ولد وعاش على الفطرة في منطقة لا نهاية لحدودها.. ولعل هذا الاتساع هو ما ولد في نفسه التوق الدائم الى الانطلاق وصاغ في نفسه نوعا من الحرية لا يعرفها سكان المدن، كما ان المكابدة المستمرة مع بيئة قاسية كالصحراء استنفدت ما لديه من طاقة ولم يعد لديه متسع لقوانين ونظم تكبل حريته. فالصحراء جردت منه الصبر كله!
نعم.. إن الصراع الازلي من اجل البقاء في واحدة من اكثر البيئات قسوة وخشونة جعلت من الانسان البدوي - على اختلاف مناطق سكنه وطبيعتها - انسانا حساسا ومتوترا وعصبيا، الا انه يتمتع بفصال نبيلة ومثالب حميدة. ولا تزال شخصية البدوي التاريخية تجسد في اذهان كثير من عرب المدن نموذجا للعربي الأصيل الذي ظل يحتفظ باخلاق ونبل وشهامة العرب القدامي!
وتعد صفات الكرم والنخوة والضيافة بعضا من صفات البدوي الاصيل، بيد ان الكرم عند البدو لا يتمثل في عادات ولائم البذخ والاسراف التي يقيمها بعض أغنياء المدن طمعا في منزلة اجتماعية لا يملكونها او ابتغاء خصال يفتقرون مقوماتها، وانما هي الاستعداد الفطري للفقير لتقديم أخر وجبة طعام يملكها لضيف حل عليه أو التخلي عن آخر ما يمتلكه لاغاثة محتاج. بينما تتجلى صفة النخوة في ايجار الضعيف ونجدة المستغيث. ويتجسد خلق الضيافة في ابسط صوره : تقديم التمر والقهوة العربية، التي تعد اكثر من مجرد شراب وانما هي تعبير عن دفء الترحيب. ويشكل موقد النار تحت ظل شجرة غاف مجلسا للقاءات ومركزا لجمع الناس للتشاور في امور تجارية او سماع الاخبار او تسوية خلاف. وتتخذ اليوم العديد من المؤسسات السياحية في الجزيرة العربية من دلة القهوة رمزا يدل على حسن الاستقبال ويقول المغامر البريطاني ولفرد ثيسجر، الذي عبر صحراء الربع الخالي خلال الفترة ما بين عامي 1945و 1950 مرتين.. الثانية منهما أخذته من "صلالة" في جنوب عمان إلى "سعر" في حضرموت و"سليل" جنوب المملكة العربية السعودية وصولا إلى واحة لوا في امارة ابو ظبي، بصحبة عدد من البدو، عن سكان الصحراء "... ويطل كرمهم السخي رغم شح مصادر رزقهم وما يملكون اعز ما في ذاكرتي... ولاني لم اكن بدويا كان يغيظني تقديم آخر ما تبقى لدينا من طعام للزوار".
وفي مكان آخر من كتابه الكلاسيكي "الرمال العربية"، الذي يصف فيه مغامرته تلك ويتناول فيه حياة البدو، يقول ثيسجر، الذي لقبه البدو باسم "مبارك بن لندن" عن قناعتهم بالحياة التي ارتضوها لأنفسهم : إن جل ما يطلبونه القليل من ضروريات الحياة، فهم يبتغون من الطعام ما يسد الرمق، ومن الملبس ما يستر أجسادهم العارية، ومن المأوى ما يدرأ عنهم لسعة الشمس ولفح الريح".
تجارة القوافل
لأن الجمال هي من نتاج الاقتصاد الرعوي، فان سيرة بدو الجزيرة العربية على حركة تجارة قوافل الجمال تعود الى الألفية الثالثة قبل الميلاد، وهي الفترة التي اشارت كتابات الآشوريين الى بدء تهجين الإبل. وتعززت سيطرتهم على تجارة القوافل اكثر فاكثر بعد ظهور السرج والسيوف وأدوات القتال المعدنية الأخرى. ولا شك ان البدو بسطوا هيمنتهم على خطوط النقل ولعبت جمالهم دورا متزايدا في تجارة "الترانزيت" خلال العصور التالية لذلك، فقد كانت مواد الطيب والبخور والتوابل تنقل بحرا من الهند وشرق أفريقيا الى مدن الساحل الشرقي للجزيرة العربية، ثم تنقل برا على ظهور الجمال مع اللبان من ظفار بجنوب عمان واليمن الى مراكز المقايضة التجارية في شمال الجزيرة وبلاد الرافدين وبلاد الشام. ونتيجة لذلك تحولت بالتدريج الكثير من الواحات والقرى التي تقع على دروب القوافل او في مفترق الطرق إلى مدن مزدهرة (رحلات الشتاء والصيف). وبعد ظهور الإسلام واصلت قبائل البدو، في الجزيرة العربية، تحكمها في حركة النقل التجاري ونقل الحجاج والمسافرين بين مدن الدولة الإسلامية، وازداد الطلب عليها بعد الفتوحات الإسلامية. وأصبحت قوافل الجمال منذ ذلك الحين الى عهد قريب، قبل دخول وسائل النقل الحديثة، الوسيلة الأساسية للنقل البري.
سوف يقتصر الحديث فيما سيأتي على مشهد واحد فقط من المشاهد السكانية التي ذكرت سلفا. وهي قرى وديان الغاف أو الوديان اختصارا حسب التسمية التي يطلقها السكان على مناطقهم تلك! يعيش سكان الوديان في منازل تبنى من جذوع النخيل وسعفه وخشب الغاف وأغصانه. ويتألف منزل الأسرة عادة من عدة وحدات، اهمها : "الخيمة"، ويبنى هيكلها من جذوع النخيل واسعفه المجرد من الخوص وحطب شجر الغاف وتربط بحبال ألياف النخيل، ثم تغطى باحكام من جميع الجهات. ويبقى على فتحة صغيزة. باغصان الغاف والسعف ويفرش فوقها قماش "الطربال" لمنع تسرب مياه المطر، وتستخدم الخيمة للمبيت أثناء ليالي الشتاء القارصة وتستغلها كمخزن في بقية اشهر السنة. و "العريش"، وتقام اعمدة اركانه من جذوع النخيل بعد فلقها الى اربعة اجزاء، ويبنى سقفه من جريد النخيل حيث تربط بالحبال وتفرش فوق عوارض تشذب من جذوع النخيل أيضا، ويكون العريش مفتوحا من جهتين مما يسمح بانسياب الهواء وتستخدمه الأسرة للمعيشة طوال أيام السنة، وفي زاوية من حوش المنزل يقام "المطبخ" بحجزه عن بقية الحوش بحظار واطئ ويحاط من الداخل بصفائح حديد. تقص عادة من براميل الوقود. لتفادي احتراق جدرانه التي تتكون من مواد سريعة الاشتعال، وفي زاوية أخرى من الحوش تقام "خيمة صغيرة" لتخزين المؤن وممتلكات الاسرة. ويقام خارج البيت "المطهار" حيث يحفظ الماء في قرب من جلد الماعز ويستخدم المكان الى جانب حفظ الماء للطهارة والاستحمام. ويقام المنزل عادة قرب شجرة غاف وارفة او تحت ظلها حيث تستغل الشجرة اذا كانت خارج المنزل للاحتفاء بالضيوف واقامة المناسبات. وعلى مسافة قريبة من البيت تقام "زريبة" المواشي، وتقيد الجمال تحت شجرة الغاف نهارا وتنقل ليلا الى مكان آخر اكثر ارتفاعا تكون فيه طبقة الرمل على الارض اسمك مما يتيح لها التمرغ والنوم على ارض اكثر نظافة وليونة. بيد ان عددا هذه الوحدات واسلوب بناء المنزل والمواد الداخلة في تركيبه تعكس بوضوح مكانة الاسرة القبلية ووضعها المادي.
تقوم حياة سكان واحات الصحراء على تربية الجمال والماعز، لكن اعتمادهم على الابل يختلف قليلا عن تلك التي يتبعها البدو الرحل. ففي وسط الصحراء تربى الجمال لسببين : الغذاء المباشر (الحليب واللحم) والبيع، بينما يربيها سكان الواحات (وديان الغاف)، علاوة على ما سبق، للنقل التجاري والمسافرين. ويشتغل معظم الرجال في تسيير قوافل الجمال لنقل المحاصيل الزراعية والمواد الغذائية وتنقل المسافرين بين الوديان وواحات النخيل والقرى الساحلية واسواق المدن الكبيرة. وتشكل تجارة القوافل المصدر الرئيسي للدخل لمعظم سكانه.. سواء لملاكها او للمستأجرين على رعيها وتسييرها! وتمثل الجمال عصب حياتهم ومجال اهتمامات السكان اليومية، وهي، اذ ذاك، الملاكز الذي تدور في فلكه انشطتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي علاوة على كل ذلك مدعاة للفخر واساس لقوة القبيلة ومنعتها واتساع نفوذها!
وتشكل المراعي الطبيعية اهم مصادر غذاء الجمال وقطعان الماعز، وفي اوقات القحط يلجأ البدو الى الجاشع والتمر الحائل والحشف لتوفير الغذاء للنوق والماعز على حد سواء، بيد ان الاعتماد على هذه المواد، اذا طالت فترات القحط حين تشح المياه وتضيق المراعي القريبة وتهزل الضأن والجمال، يرهق اصحاب الجمال ماديا. ويصبح حسن ادارة وتنظيم دورة التوالد للجمال والمواشي ذا اهمية بالغة تترتب عليها حياة الافراد والقبيلة كلها، حيث يمكن بذلك توفير الحليب ومشتقاته الذي يعتبر مع التمر جزءا اساسيا من مائدة الاسر البدوية!
وتتولى النساء، الى جانب المهام المنزلية، تربية الماعز والسرح بها الى المراعي، والاشغال اليدوية المصنوعة من وبر الابل وصوف الأغنام. ويشكل غزل خيوط الصوف والشعر مصدرا هاما للعديد من الاسر، بينما يكون نسيج ألحفة وأغطية الشتاء والشمائل والخروج والساحات والزرابيل اهم المنتجات التي تنجزها النساء.
وتعزى تربية الاغنام دون سواها من المواشي الى ميزاتها حيث ان معدل تكاثرها الاعلي ما بين كافة المواشي، وهي تشكل بالتالي مصدرا احتياطيا يرجع اليه لضمان الاحتياجات الاساسية للاسرة. سواء بيعها في مناطق التجمعات السكانية في مناسبات الاعياد او الاستفادة مما توفره من اللبن ومشتقاته.
ويمثل اتقان مهارات العيش في منطقة على تخوم واحدة من اشد المناطق في العالم قسوة ليس ضروريا لحياة الفرد وحسب، بل يسوغ بمرور الوقت كيانه وقيمه الاجتماعية ومن ثم مواقفه وعلاقاته تجاه القبيلة التي هو عضو فيها. وليس ثمة متسع في حياة البدو للـ "أنا" وإنما "نحن" هي سر بقاء الفرد والجماعة.
صليل السيوف وخشخشة الحلي
ترتبط في ذاكرة الناس ان الحياة الاجتماعية في الصحراء جدباء كوحشة المكان الذي لا يجاوره غير الخواء الكامل على الأرض وفي السماء. وانعكس ذلك - حسب رأيهم - على الحياة الاجتماعية والابداع الانساني ونسوا ان الذاكرة العربية الخصبة بالشعر والحكايات والاساطير الشعبية هي نتاج الصحراء دون سواها وان البادية هي مهد اللغة العربية وحاضنتها. وعادة ارسال عرب مدن شمال الجزيرة والهلال الخصيب - حتى وقت قريب - ابناءهم للاقامة في البادية بين أحدى القبائل العربية الاصيلة لاتقان اللغة والتأدب بآداب البدو خير ما يدل على فضل البدو في ذلك المضمار.
وثمة من يظن أنه لا مكان عند البدوي لامتاع الروح في ظل صراعه الدائم مع البيئة. وهنا يخطئون ايضا! فليالي الصحراء زاخرة بمشاهد الفرح واطياف المرح ورواية الحكايات والاساطير الشعبية عن بطولات وامجاد لا ينضب معينها.
ففي رمسة العرق على سفح كثبان رمل ناصع البياض، يجتمع الصبيان والبنات. على حد سواء. للغناء وقرض الشعر والرقص ولعبة الساري على ضوء القمر. وهناك يصدح صوت شاعر الوادي ومغنيه وهو ينظم الشعر حماسيا يصف فيه قوة القبيلة وشجاعة رجالها: او غزليا يمدح الجميلات من النساء ويشيد بشرفهن، او حزنا على ميت، او فرحا في عيد او عرس او ختان. وكل ذلك حسبما يناسب المزاج السائد في الوادي حينه! وعلى قرع الطبل ترقص الفتيات ويشاركهن الصبيان في حركات تعبيرية تعكس حياة الناس واساليب عيشتهم ومعاناتهم دون ابتذال، وليس في رقصهم ما يخل بالشرف او يدعو لنقيصة.
ويدور حول موقد النار وفناجين القهوة وحبات التمر حديث الرجال ويتناول امورا مختلفة تتخللها اخبار الوديان المجاورة او ما تناقلته القوافل بما يفيدهم على تسيير قوافلهم نحو المناطق التي يكثر الطلب فيها على قوافل النقل. وتروى في مرمس الرجال الحكايات والطرائف وقول الشعر. ويتحدث الاوفر حظا بالعلم عن قضايا دينية وأمور تاريخية ويحكي قصص الانبياء والمسلمين الأوائل ويروي تاريخ العرب وحروبهم الاهلية وضد الغزاة، ويتحدث عن الفتوحات وانتشار الدين.. وهذا غيض من فيض !
بينما تتجمع النساء والاطفال مع معلمة القرآن لسماع الخراريف والقصص والاساطير التي تغرس في نفوس الاطفال الاخلاق النبيلة والسلوك السوي وتحلق بخيالهم الى اماكن وبيئات لم يألفوها، وتشكل في الذاكرة مدارك ومفاهيم تهيئ الاطفال وهم في سن مبكرة لخوض الصراع من اجل البقاء واولها الولاء للقبيلة. فهي طوق النجاة !
كما ان الاعياد والزواج والختان وعودة الغائب هي مناسبات لاقامة الاحتفالات، حيث يخرج الناس بافضل ثيابهم وزينتهم وحليهم، فالرجال يلبسون الخناجر ويتشحون احزمة الرصاص ويحملون البنادق والسيوف. وتتزين النساء بافضل حليهن من الذهب والفضة كالعوص والغلاميات والمرتشحة والمرية والحجل. ويتبرجن بكريم عطري يصنع محليا ويسمى المحلب، كما يدهن شعورهن بمسحوق ورق السدر لتثبيت تسريحة تسمى العجفة ويخضبن أياديهن وأرجلهن بالحناء على شكل تصاميم واشكال جميلة تبهر النظر وتزيد الجميلات منهن جمالا.
والفرح عند البدو بدون سباق للجمال لا يعد فرحا! فالأعياد والزواج والختان وعودة الغائب. مظاهر فرح لا تكتمل اذا لم تصاحبها عروض للجمال، حيث يصل اصحاب النوق الى المركاض او موقع الاحتفال في فرقة واحدة منتظمة الصفوف قبل بدء السباق ويستعرضون نوقهم خببا على غناء التغرود حول دائرة المركاض في شكل استعراضي أخاذ.
وتجعل أصوات الغناء المرتفعة وقرع الطبول وصليل السيوف وخشخشة حلي النساء، ومنظر الرازحين ولمعان سيوفهم وسباق الهجن والاطفال بملابسهم الزاهية والنساء الجميلات، واريج العطور الممتزجة في الهواء مع روائح الطعام النفاذة، من هذه الاحتفالات حدثا رائعا له عبق لا يزول من الذاكرة.
ذلك كان نمط حياة بعض من البدو.. حياة ارتضوها لانفسهم! لكن رياح التغيير التي هبت على دول الخليج العربي في العقود الأخيرة من القرن المنصرم بسبب اكتشاف النفط أنهت، إلى غير عودة، أساليب حياة البدو بكافة أشكالها، واخذت سماتها تتغير وطفت على حياتهم افرازات النمو الاقتصادي. وكانت اكثر التحولات هي تلك التي ترتبت على إدخال أساليب النقل الحديثة، فقد شقت الطرق المسفلتة الصحراء وحلت السيارة محل الجمل. ولم يكن بوسعهم سوى التخلي عن نمط حياة لم يعد يلائم العصر، وتحولت التجمعات السكانية تلك إلى مدن صغيرة "تنعم" بالمساكن الاسمنتية الحديثة والكهرباء والمياه والخدمات الاجتماعية كالتعليم والرعاية الصحية.
الهوامش
الجاشع : سمك السردين المجفف
الحائل : التمر بعد مرور حول عليه
الحشف : التمر الذي يفسد قبل وقت حصاده ويسقط من النخلة
الشمائل : ابسطة تصنع من صوف الماعز وتفرش على ظهر الجمل او تعلق لحجب اشعة الشمس الساحات : ابسطة تنسج من صوف الماعز وتستخدم كفراش
مرمس : مكان التجمع للسهر
الخراريف : جمع خروفة وهي قصص تاريخية او اسطورية ترويها كبيرات السن للاطفال.
المحلب : مزيج من الزيت والزعفران والصندل والزهور الجافة والماء.
التغرود: أهزوجة يسوق البدو جمالهم على إيقاعها.
وشكرا قــــــــــــاهر الصـــــــــــــحــــــــ ـــراء <img src="http://oasis.bindubai.com/emoticons/biggrin.gif" border="0" valign="absmiddle" alt=':D'> <img src="http://oasis.bindubai.com/emoticons/biggrin.gif" border="0" valign="absmiddle" alt=':D'> <img src="http://oasis.bindubai.com/emoticons/biggrin.gif" border="0" valign="absmiddle" alt=':D'></font>
انشاء لله يعيبكم
عند ذكر كلمة البادية عادة ما يتبادر للذهن صحراء قاحلة شديدة القسوة، وهي، اذ ذاك، اما انها سهوب شاسعة جرداء او كثبان رمال متحركة.. لا تكاد ترى فيها للنبات ظلا ولا تسمع للحياة نفسا الا ما ندر ويطبق على فيافيها الواسعة الصمت لا من اصوات هزير الرياح! ودرجت العادة ايضا على القول ان الترحال والتنقل الدائم بحثا عن الماء والكلأ هي السمات الرئيسية المميزة لسكانها اللذين يسمون البدو الرحل.
ولعل الانطباع السابق عن الصحراء، التي شكلت اصعب التحديات على الانسان من أي منطقة أخرى على وجه الارض، لا تجافيه الحقيقة الا في قصر التسمية "البدو" على أولئك الناس الذين قال عنهم مستكشف أوروبي "الشعلة التي أضاءت الصحراء" فالبادية ليست فقط الرمال والجدب والسهوب، وهي بدون شك ليست فقط تلك الفيافي التي يستعصي فيها على النظر التمييز بين السراب والغدير.
فعلى تخوم صحراء الربع الخالي قامت مناطق استيطان مستقرة اتخذت من بطون الوديان بين كثبان الرمال او في مجاري السيول قرب الجبال او عند التقاء الصحراء والبحر مراكز تجمعات سكانية لها حضور ثقافي وحضاري منذ القدم.. خاصة مناطق الحافة الشرقية والجنوبية الشرقية لصحراء الجزيرة العربية. وتعتبر واحات النخيل، ووديان شجر الغاف، والقرى الساحلية ابرز هذه المناطق السكانية، حيث تشكل النخلة، في الاولي، مصدر غذاء رئيسيا فضلا عن استخدامات أخرى كثيرة ؟ وتدور انشطة سكان وديان الغاف حول قوافل الجمال ورعي الماشية ؟ بينما يأتي البحر في القرى الساحلية على رأس اهم مصادر كسب الرزق. واذ ذاك، فان المناطق الثلاث ليست بعيدة عن الطبيعة القاحلة والشمس الحارقة وخواء الارض الذي عرفت به الصحراء. واهلها وان لم يمضوا حياتهم متنقلين وراء العشب والمياه، الا انها لم تكن بمنأى عن المكابدة العظيمة التي يعانيها البدو الرحل، وبالتالي فهم لا يختلفون عنهم بشيء، وان اختلفت انماط حياتهم ومصادر رزقهم بعض الشيء.. لا سيما وان معظمهم ينتسبون لنفس القبائل.
ويقال ايضا ان نمط حياة الانسان البدوي وعالمه المحكوم باعراف وتقاليد القبيلة لا تسمح له بالخضوع لقانون أو سلطة! لكنهم ينسون ان البدوي انسان ولد وعاش على الفطرة في منطقة لا نهاية لحدودها.. ولعل هذا الاتساع هو ما ولد في نفسه التوق الدائم الى الانطلاق وصاغ في نفسه نوعا من الحرية لا يعرفها سكان المدن، كما ان المكابدة المستمرة مع بيئة قاسية كالصحراء استنفدت ما لديه من طاقة ولم يعد لديه متسع لقوانين ونظم تكبل حريته. فالصحراء جردت منه الصبر كله!
نعم.. إن الصراع الازلي من اجل البقاء في واحدة من اكثر البيئات قسوة وخشونة جعلت من الانسان البدوي - على اختلاف مناطق سكنه وطبيعتها - انسانا حساسا ومتوترا وعصبيا، الا انه يتمتع بفصال نبيلة ومثالب حميدة. ولا تزال شخصية البدوي التاريخية تجسد في اذهان كثير من عرب المدن نموذجا للعربي الأصيل الذي ظل يحتفظ باخلاق ونبل وشهامة العرب القدامي!
وتعد صفات الكرم والنخوة والضيافة بعضا من صفات البدوي الاصيل، بيد ان الكرم عند البدو لا يتمثل في عادات ولائم البذخ والاسراف التي يقيمها بعض أغنياء المدن طمعا في منزلة اجتماعية لا يملكونها او ابتغاء خصال يفتقرون مقوماتها، وانما هي الاستعداد الفطري للفقير لتقديم أخر وجبة طعام يملكها لضيف حل عليه أو التخلي عن آخر ما يمتلكه لاغاثة محتاج. بينما تتجلى صفة النخوة في ايجار الضعيف ونجدة المستغيث. ويتجسد خلق الضيافة في ابسط صوره : تقديم التمر والقهوة العربية، التي تعد اكثر من مجرد شراب وانما هي تعبير عن دفء الترحيب. ويشكل موقد النار تحت ظل شجرة غاف مجلسا للقاءات ومركزا لجمع الناس للتشاور في امور تجارية او سماع الاخبار او تسوية خلاف. وتتخذ اليوم العديد من المؤسسات السياحية في الجزيرة العربية من دلة القهوة رمزا يدل على حسن الاستقبال ويقول المغامر البريطاني ولفرد ثيسجر، الذي عبر صحراء الربع الخالي خلال الفترة ما بين عامي 1945و 1950 مرتين.. الثانية منهما أخذته من "صلالة" في جنوب عمان إلى "سعر" في حضرموت و"سليل" جنوب المملكة العربية السعودية وصولا إلى واحة لوا في امارة ابو ظبي، بصحبة عدد من البدو، عن سكان الصحراء "... ويطل كرمهم السخي رغم شح مصادر رزقهم وما يملكون اعز ما في ذاكرتي... ولاني لم اكن بدويا كان يغيظني تقديم آخر ما تبقى لدينا من طعام للزوار".
وفي مكان آخر من كتابه الكلاسيكي "الرمال العربية"، الذي يصف فيه مغامرته تلك ويتناول فيه حياة البدو، يقول ثيسجر، الذي لقبه البدو باسم "مبارك بن لندن" عن قناعتهم بالحياة التي ارتضوها لأنفسهم : إن جل ما يطلبونه القليل من ضروريات الحياة، فهم يبتغون من الطعام ما يسد الرمق، ومن الملبس ما يستر أجسادهم العارية، ومن المأوى ما يدرأ عنهم لسعة الشمس ولفح الريح".
تجارة القوافل
لأن الجمال هي من نتاج الاقتصاد الرعوي، فان سيرة بدو الجزيرة العربية على حركة تجارة قوافل الجمال تعود الى الألفية الثالثة قبل الميلاد، وهي الفترة التي اشارت كتابات الآشوريين الى بدء تهجين الإبل. وتعززت سيطرتهم على تجارة القوافل اكثر فاكثر بعد ظهور السرج والسيوف وأدوات القتال المعدنية الأخرى. ولا شك ان البدو بسطوا هيمنتهم على خطوط النقل ولعبت جمالهم دورا متزايدا في تجارة "الترانزيت" خلال العصور التالية لذلك، فقد كانت مواد الطيب والبخور والتوابل تنقل بحرا من الهند وشرق أفريقيا الى مدن الساحل الشرقي للجزيرة العربية، ثم تنقل برا على ظهور الجمال مع اللبان من ظفار بجنوب عمان واليمن الى مراكز المقايضة التجارية في شمال الجزيرة وبلاد الرافدين وبلاد الشام. ونتيجة لذلك تحولت بالتدريج الكثير من الواحات والقرى التي تقع على دروب القوافل او في مفترق الطرق إلى مدن مزدهرة (رحلات الشتاء والصيف). وبعد ظهور الإسلام واصلت قبائل البدو، في الجزيرة العربية، تحكمها في حركة النقل التجاري ونقل الحجاج والمسافرين بين مدن الدولة الإسلامية، وازداد الطلب عليها بعد الفتوحات الإسلامية. وأصبحت قوافل الجمال منذ ذلك الحين الى عهد قريب، قبل دخول وسائل النقل الحديثة، الوسيلة الأساسية للنقل البري.
سوف يقتصر الحديث فيما سيأتي على مشهد واحد فقط من المشاهد السكانية التي ذكرت سلفا. وهي قرى وديان الغاف أو الوديان اختصارا حسب التسمية التي يطلقها السكان على مناطقهم تلك! يعيش سكان الوديان في منازل تبنى من جذوع النخيل وسعفه وخشب الغاف وأغصانه. ويتألف منزل الأسرة عادة من عدة وحدات، اهمها : "الخيمة"، ويبنى هيكلها من جذوع النخيل واسعفه المجرد من الخوص وحطب شجر الغاف وتربط بحبال ألياف النخيل، ثم تغطى باحكام من جميع الجهات. ويبقى على فتحة صغيزة. باغصان الغاف والسعف ويفرش فوقها قماش "الطربال" لمنع تسرب مياه المطر، وتستخدم الخيمة للمبيت أثناء ليالي الشتاء القارصة وتستغلها كمخزن في بقية اشهر السنة. و "العريش"، وتقام اعمدة اركانه من جذوع النخيل بعد فلقها الى اربعة اجزاء، ويبنى سقفه من جريد النخيل حيث تربط بالحبال وتفرش فوق عوارض تشذب من جذوع النخيل أيضا، ويكون العريش مفتوحا من جهتين مما يسمح بانسياب الهواء وتستخدمه الأسرة للمعيشة طوال أيام السنة، وفي زاوية من حوش المنزل يقام "المطبخ" بحجزه عن بقية الحوش بحظار واطئ ويحاط من الداخل بصفائح حديد. تقص عادة من براميل الوقود. لتفادي احتراق جدرانه التي تتكون من مواد سريعة الاشتعال، وفي زاوية أخرى من الحوش تقام "خيمة صغيرة" لتخزين المؤن وممتلكات الاسرة. ويقام خارج البيت "المطهار" حيث يحفظ الماء في قرب من جلد الماعز ويستخدم المكان الى جانب حفظ الماء للطهارة والاستحمام. ويقام المنزل عادة قرب شجرة غاف وارفة او تحت ظلها حيث تستغل الشجرة اذا كانت خارج المنزل للاحتفاء بالضيوف واقامة المناسبات. وعلى مسافة قريبة من البيت تقام "زريبة" المواشي، وتقيد الجمال تحت شجرة الغاف نهارا وتنقل ليلا الى مكان آخر اكثر ارتفاعا تكون فيه طبقة الرمل على الارض اسمك مما يتيح لها التمرغ والنوم على ارض اكثر نظافة وليونة. بيد ان عددا هذه الوحدات واسلوب بناء المنزل والمواد الداخلة في تركيبه تعكس بوضوح مكانة الاسرة القبلية ووضعها المادي.
تقوم حياة سكان واحات الصحراء على تربية الجمال والماعز، لكن اعتمادهم على الابل يختلف قليلا عن تلك التي يتبعها البدو الرحل. ففي وسط الصحراء تربى الجمال لسببين : الغذاء المباشر (الحليب واللحم) والبيع، بينما يربيها سكان الواحات (وديان الغاف)، علاوة على ما سبق، للنقل التجاري والمسافرين. ويشتغل معظم الرجال في تسيير قوافل الجمال لنقل المحاصيل الزراعية والمواد الغذائية وتنقل المسافرين بين الوديان وواحات النخيل والقرى الساحلية واسواق المدن الكبيرة. وتشكل تجارة القوافل المصدر الرئيسي للدخل لمعظم سكانه.. سواء لملاكها او للمستأجرين على رعيها وتسييرها! وتمثل الجمال عصب حياتهم ومجال اهتمامات السكان اليومية، وهي، اذ ذاك، الملاكز الذي تدور في فلكه انشطتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي علاوة على كل ذلك مدعاة للفخر واساس لقوة القبيلة ومنعتها واتساع نفوذها!
وتشكل المراعي الطبيعية اهم مصادر غذاء الجمال وقطعان الماعز، وفي اوقات القحط يلجأ البدو الى الجاشع والتمر الحائل والحشف لتوفير الغذاء للنوق والماعز على حد سواء، بيد ان الاعتماد على هذه المواد، اذا طالت فترات القحط حين تشح المياه وتضيق المراعي القريبة وتهزل الضأن والجمال، يرهق اصحاب الجمال ماديا. ويصبح حسن ادارة وتنظيم دورة التوالد للجمال والمواشي ذا اهمية بالغة تترتب عليها حياة الافراد والقبيلة كلها، حيث يمكن بذلك توفير الحليب ومشتقاته الذي يعتبر مع التمر جزءا اساسيا من مائدة الاسر البدوية!
وتتولى النساء، الى جانب المهام المنزلية، تربية الماعز والسرح بها الى المراعي، والاشغال اليدوية المصنوعة من وبر الابل وصوف الأغنام. ويشكل غزل خيوط الصوف والشعر مصدرا هاما للعديد من الاسر، بينما يكون نسيج ألحفة وأغطية الشتاء والشمائل والخروج والساحات والزرابيل اهم المنتجات التي تنجزها النساء.
وتعزى تربية الاغنام دون سواها من المواشي الى ميزاتها حيث ان معدل تكاثرها الاعلي ما بين كافة المواشي، وهي تشكل بالتالي مصدرا احتياطيا يرجع اليه لضمان الاحتياجات الاساسية للاسرة. سواء بيعها في مناطق التجمعات السكانية في مناسبات الاعياد او الاستفادة مما توفره من اللبن ومشتقاته.
ويمثل اتقان مهارات العيش في منطقة على تخوم واحدة من اشد المناطق في العالم قسوة ليس ضروريا لحياة الفرد وحسب، بل يسوغ بمرور الوقت كيانه وقيمه الاجتماعية ومن ثم مواقفه وعلاقاته تجاه القبيلة التي هو عضو فيها. وليس ثمة متسع في حياة البدو للـ "أنا" وإنما "نحن" هي سر بقاء الفرد والجماعة.
صليل السيوف وخشخشة الحلي
ترتبط في ذاكرة الناس ان الحياة الاجتماعية في الصحراء جدباء كوحشة المكان الذي لا يجاوره غير الخواء الكامل على الأرض وفي السماء. وانعكس ذلك - حسب رأيهم - على الحياة الاجتماعية والابداع الانساني ونسوا ان الذاكرة العربية الخصبة بالشعر والحكايات والاساطير الشعبية هي نتاج الصحراء دون سواها وان البادية هي مهد اللغة العربية وحاضنتها. وعادة ارسال عرب مدن شمال الجزيرة والهلال الخصيب - حتى وقت قريب - ابناءهم للاقامة في البادية بين أحدى القبائل العربية الاصيلة لاتقان اللغة والتأدب بآداب البدو خير ما يدل على فضل البدو في ذلك المضمار.
وثمة من يظن أنه لا مكان عند البدوي لامتاع الروح في ظل صراعه الدائم مع البيئة. وهنا يخطئون ايضا! فليالي الصحراء زاخرة بمشاهد الفرح واطياف المرح ورواية الحكايات والاساطير الشعبية عن بطولات وامجاد لا ينضب معينها.
ففي رمسة العرق على سفح كثبان رمل ناصع البياض، يجتمع الصبيان والبنات. على حد سواء. للغناء وقرض الشعر والرقص ولعبة الساري على ضوء القمر. وهناك يصدح صوت شاعر الوادي ومغنيه وهو ينظم الشعر حماسيا يصف فيه قوة القبيلة وشجاعة رجالها: او غزليا يمدح الجميلات من النساء ويشيد بشرفهن، او حزنا على ميت، او فرحا في عيد او عرس او ختان. وكل ذلك حسبما يناسب المزاج السائد في الوادي حينه! وعلى قرع الطبل ترقص الفتيات ويشاركهن الصبيان في حركات تعبيرية تعكس حياة الناس واساليب عيشتهم ومعاناتهم دون ابتذال، وليس في رقصهم ما يخل بالشرف او يدعو لنقيصة.
ويدور حول موقد النار وفناجين القهوة وحبات التمر حديث الرجال ويتناول امورا مختلفة تتخللها اخبار الوديان المجاورة او ما تناقلته القوافل بما يفيدهم على تسيير قوافلهم نحو المناطق التي يكثر الطلب فيها على قوافل النقل. وتروى في مرمس الرجال الحكايات والطرائف وقول الشعر. ويتحدث الاوفر حظا بالعلم عن قضايا دينية وأمور تاريخية ويحكي قصص الانبياء والمسلمين الأوائل ويروي تاريخ العرب وحروبهم الاهلية وضد الغزاة، ويتحدث عن الفتوحات وانتشار الدين.. وهذا غيض من فيض !
بينما تتجمع النساء والاطفال مع معلمة القرآن لسماع الخراريف والقصص والاساطير التي تغرس في نفوس الاطفال الاخلاق النبيلة والسلوك السوي وتحلق بخيالهم الى اماكن وبيئات لم يألفوها، وتشكل في الذاكرة مدارك ومفاهيم تهيئ الاطفال وهم في سن مبكرة لخوض الصراع من اجل البقاء واولها الولاء للقبيلة. فهي طوق النجاة !
كما ان الاعياد والزواج والختان وعودة الغائب هي مناسبات لاقامة الاحتفالات، حيث يخرج الناس بافضل ثيابهم وزينتهم وحليهم، فالرجال يلبسون الخناجر ويتشحون احزمة الرصاص ويحملون البنادق والسيوف. وتتزين النساء بافضل حليهن من الذهب والفضة كالعوص والغلاميات والمرتشحة والمرية والحجل. ويتبرجن بكريم عطري يصنع محليا ويسمى المحلب، كما يدهن شعورهن بمسحوق ورق السدر لتثبيت تسريحة تسمى العجفة ويخضبن أياديهن وأرجلهن بالحناء على شكل تصاميم واشكال جميلة تبهر النظر وتزيد الجميلات منهن جمالا.
والفرح عند البدو بدون سباق للجمال لا يعد فرحا! فالأعياد والزواج والختان وعودة الغائب. مظاهر فرح لا تكتمل اذا لم تصاحبها عروض للجمال، حيث يصل اصحاب النوق الى المركاض او موقع الاحتفال في فرقة واحدة منتظمة الصفوف قبل بدء السباق ويستعرضون نوقهم خببا على غناء التغرود حول دائرة المركاض في شكل استعراضي أخاذ.
وتجعل أصوات الغناء المرتفعة وقرع الطبول وصليل السيوف وخشخشة حلي النساء، ومنظر الرازحين ولمعان سيوفهم وسباق الهجن والاطفال بملابسهم الزاهية والنساء الجميلات، واريج العطور الممتزجة في الهواء مع روائح الطعام النفاذة، من هذه الاحتفالات حدثا رائعا له عبق لا يزول من الذاكرة.
ذلك كان نمط حياة بعض من البدو.. حياة ارتضوها لانفسهم! لكن رياح التغيير التي هبت على دول الخليج العربي في العقود الأخيرة من القرن المنصرم بسبب اكتشاف النفط أنهت، إلى غير عودة، أساليب حياة البدو بكافة أشكالها، واخذت سماتها تتغير وطفت على حياتهم افرازات النمو الاقتصادي. وكانت اكثر التحولات هي تلك التي ترتبت على إدخال أساليب النقل الحديثة، فقد شقت الطرق المسفلتة الصحراء وحلت السيارة محل الجمل. ولم يكن بوسعهم سوى التخلي عن نمط حياة لم يعد يلائم العصر، وتحولت التجمعات السكانية تلك إلى مدن صغيرة "تنعم" بالمساكن الاسمنتية الحديثة والكهرباء والمياه والخدمات الاجتماعية كالتعليم والرعاية الصحية.
الهوامش
الجاشع : سمك السردين المجفف
الحائل : التمر بعد مرور حول عليه
الحشف : التمر الذي يفسد قبل وقت حصاده ويسقط من النخلة
الشمائل : ابسطة تصنع من صوف الماعز وتفرش على ظهر الجمل او تعلق لحجب اشعة الشمس الساحات : ابسطة تنسج من صوف الماعز وتستخدم كفراش
مرمس : مكان التجمع للسهر
الخراريف : جمع خروفة وهي قصص تاريخية او اسطورية ترويها كبيرات السن للاطفال.
المحلب : مزيج من الزيت والزعفران والصندل والزهور الجافة والماء.
التغرود: أهزوجة يسوق البدو جمالهم على إيقاعها.
وشكرا قــــــــــــاهر الصـــــــــــــحــــــــ ـــراء <img src="http://oasis.bindubai.com/emoticons/biggrin.gif" border="0" valign="absmiddle" alt=':D'> <img src="http://oasis.bindubai.com/emoticons/biggrin.gif" border="0" valign="absmiddle" alt=':D'> <img src="http://oasis.bindubai.com/emoticons/biggrin.gif" border="0" valign="absmiddle" alt=':D'></font>